samedi 11 juillet 2009

مع السفور ضد الحجاب

تقديم:

جرى جدل غير عادي، في الأشهر الأخيرة، حول الحجاب، في بلادنا وفي غيرها من البلدان العربية، غذته الفضائيات الخليجية الدينية وغير الدينية بما في ذلك "قناة الجزيرة". وقد شمل هذا الجدل العديد من البلدان الغربية، وعلى الأخص فرنسا أين شاركت فيه جميع الأوساط تقريبا، حيث لم تتخلف مكونات المجتمع المدني والسياسي عن الإدلاء برأيها. وكان للمختصين والمثقفين ورجال الديانات الثلاثة: اليهودية والمسيحية والإسلام، في هذا النقاش الذي تناقلته مختلف وسائل الإعلام المقروءة والسمعية والبصرية وشبكة "الواب". وصادق المجلس التشريعي الفرنسي على قانون يحجّر حمل علامات دينية في المؤسسات التعليمية العمومية.

وتقابل في هذا الجدل،تياران كبيران، الأول رافض لكل أشكال حجب المرأة باعتبارها مظاهر دالة على استنقاصها واستعبادها وإهانتها كذات إنسانية، والثاني يعتبرها ركنا من أركان الشريعة وأعطاه صفة لباس "شرعي إسلامي".

ويدعم الماسكون بالسلطة في السعودية وإيران (الوهابية في السعودية والخمينية في إيران) أصحاب التأويلات الدينية الأكثر تزمتا وسلفية والجماعات الأصولية الأكثر تطرفا وسلفية وانغلاقا، فلم يبخلوا عليها بالدّعم المادي والمعنوي وبترويج أفكارها الظلامية. من ذلك توزيع، "الزّي الإسلامي" والكتب الصفراء وكتب أبو الأعلى المودودي وأقطاب الحركة السلفية، مجانا في كثير من الأحيان، ويتركون الشباب يأخذها في المعارض دون رقيب.

ويواجه هذا التيار الرجعي تيار إصلاحي في جميع المناسبات، فكان له معه جدل حول الحجاب وتأويلات شرعية في مجالات أخرى. وهو ما حصل مع المستشار محمد سعيد العشماوي في مقابلة مع شيوخ الأزهر ومحمد الطنطاوي مفتي الجمهورية المصرية، في أواسط العشرية الأخيرة من القرن الماضي.

والملاحظ أن هذا التقابل بين التيار الإصلاحي، من داخل المنظومة الدينية، وبين التيار المحافظ، لم يحصل بعد في بلادنا، إذا استثنينا الآراء التي عبر عنها الأستاذ الطالبي أو الأستاذان الجورشي والنيفر. والأنكى أن آراء وأفكار وتنظيرات ظهرت في الصف الديمقراطي واليساري تدعو إلى "حرية اللباس" باسم حقوق الإنسان والحريات الفردية، متجاهلة ما يرمز إليه من تمييز جنسي ونظرة دونية للمرأة، وأخرى في صف السلطة تدعو للعودة إلى اللباس التقليدي، معارضة "للباس الطائفي"، معوضة بذلك الحجاب بحجاب آخر.

فكان ولا بدّ أن ندلي برأينا في الموضوع، دفاعا عن السفور ضد الحجاب، ضمن المحاور التالية:

1- الحجاب

2- أنواع الحجب التي شهدتها البلدان العربية والإسلامية

3- تاريخ الحجاب

4- كيف ظهر التمييز بين المرأة والرجل

5- الأديان وحجب المرأة

6- الحجاب يؤسس لفكرة المرأة الجنس

7- اللباس ظاهرة حضارية

8- شعر المرأة ليس عورة

9- الحجاب مؤسسة فصل بين المرأة والرجل في المجالين البيتي والعمومي

10- الحجاب يافطة سياسية لمشروع استبدادي متستر بالدين

11- السفور من صميم القضية الديمقراطية و"حرية اللباس" تعني القبول بدونية المرأة

12- الدعوة "للعودة إلى اللباس التقليدي" هي تعويض حجاب بحجاب

13- الحجاب لا يمثل العفة وحسن الأخلاق

14- مصلحون ناهضوا الحجاب على أساس التأويل الديني

15- أما آن للديمقراطيين واليساريين أن يقفوا موقف الطاهر الحداد من قضية المرأة؟!

1- الحجاب

كمدخل لنقاس موضوع الحجاب ارتأينا تقديم مقتطفات ممّا كتبه الطاهر الحداد حول الموضوع، تقديرا لشجاعته وصفائه الذهني في دفاعه عن قضية المرأة، يقول في شأن الحجاب:

"ما أشبه ما تضع المرأة من النقاب على وجهها منعا للفجور بما يوضع من الكمامة على فم الكلاب كي لا تعض المارين. وما أقبح ما نوحي به إلى قلب الفتاة وضميرها إذ نعلن اتهامها وعدم الثّقة إلا في الحواجز المادية التي نقيمها عليها. ونلزمها هي الأخرى أيضا أن تقتنع بما قررنا راضية بضعفها إلى هذا الحد موقنة بخلوده الآتي من أصل تكوينتها. وليس عند هذا الحد وقفنا بل قد كان هذا النوع من الحجاب رخصة لخروجها من منزلها تقدر بقدر الضرورة الموجهة للخروج كموت الأقارب ومرضهم وما أشبه ذلك في الأهمية. .......

الحجاب عادة في المدن وبعض القرى أما باديتنا على العموم فهي سافرة على الفطرة. غير أني كلما فكرت في أمر الحجاب لا أرى فيه إلا أنه أنانيتنا المحجنة بالشعور الديني كحصن تعتز به على المخالفين. لا سيما إذا رأينا أن هذا الشعور يتضاءل حتى يكاد يفنى فيما يتعلق به غرضنا وهوانا. ويكفينا أن ننظر إلى زنى الرجال والمرأة كيف يعتبر منه جرأة واقتدارا ومنها سبة وعارا. ..............

إن الحجاب قد كان أعظم حائل بين الرجل والمرأة في اختيار كل منهما للآخر عند إرادة الزواج......................

إن الحجاب أوجد للرجال حياة خاصة خارج المنزل لا تعرفها النساء...........". (1)

2- أنواع الحجاب التي شهدتها

البلدان العربية والإسلامية

لم يظهر الحجاب في صيغة "زيّ إسلامي"، باسم الدين والقانون، إلاّ في عهد المماليك وانتصاب الأتراك العثمانيين في الحكم، الذين حكموا البلاد العربية باسم الدين والخلافة طيلة أربعة قرون. لقد فرضوا على المرأة، فرمان صدر عن السلطان سليمان بن سليم سنة 1517م يحجر عليها السّير في الطريق العام سافرة. وإن تجاسرت وفعلت، تعاقب بقص شعرها بالشفرة (الموسى) وتمتطي حمارا بالمقلوب وتعرض في الأسواق العامة.

إن إذلال المرأة واضطهادها بهذا الشكل كان بمثابة مدخل لإخضاع المجتمعات العربية للسيطرة العثمانية ولاضطهادها القومي.فالأتراك تصرفوا مع العرب كسلطة استعمارية.

وتوجد أنواع متعددة من الحجب، نتعرض للبعض منها:

أ- الحجاب التقليدي:

ترتدي المرأة في البلدان العربية والإسلامية حجبا تمثل استمرارا لتقاليد المحافظة في التمييز الجنسي بين المرأة والرجل، تأخذا أشكالا مختلفة باختلاف المناطق والبلدان فهو القناع والبرقع والنّقاب والملاءة والسفساري والبشمق…الخ. والحجاب التقليدي هو في طور الإنحسار والأفول، في ارتباط بدرجة التطور الثقافي والسّياسي والإجتماعي والحضاري لكل مجتمع.

ب- حجاب الدولة الدينية:

فرضت الدول الدينية في صيغتها الوهابية (المملكة العربية السعودية) والخمينية- الشيعية (إيران) والإخوانية- السنية (السودان وغيرها) أنواعا من الحجب على المرأة بحكم قوانين رسمية للدولة القائمة، جعلت ارتداءه إجباريا وإلزاميا دون استثناء أو تمييز بين النساء.

ومع وصول الطالبان إلى السلطة شهدنا نوعا جديدا من الحجب أخذت مظهرها العام من الشّكل الإيراني وأضفوا عليها صرامة أشدّ، بحيث تظهر المرأة على شكل كتلة سوداء متحركة أو قابعة.

أما الحجاب الذي تفرضه الدولة السودانية على المرأة، فهو لا يختلف عن الحجاب الأصولي الذي تسعى الحركة الإسلامية إلى التميز به، اجتماعيا وسياسيا، تماما مثل اللحية والجلباب الأبيض الخليجي والسروال الباكستاني/الهندي/الأفغاني بالنسبة للرجال، زيادة على المضمون الرجعي الذي يحمله بشأن المرأة.

ج- الحجاب السياسي:

تسمي الحركات الإسلامية، بمختلف نزعاتها، الحجاب "حجابا شرعيا". وترتديه النّساء المنتميات لهذه الحركات أو الواقعات تحت تأثيرها، باعتباره شعارها الدال على صرامتها "العقدية"، والذي يختزل المرأة في مفهوم "المرأة/العورة" كما حدده الفقهاء السلفيون سنّة وشيعة.

وقد شهد الحجاب في العشريتين الأخيرتين عودة تكثّفت مع الدعاة الأصوليين له في الفضائيات الخليجية، وعلى الأخص بعد أحداث 11 سبتمبر وظهور الحركة الإسلامية كتنظيم عالمي "مناهض لأمريكا".

ويتكوّن "اللباس الشرعي" أو "الزّي الإسلامي" من قسمين أساسيين، الأول هو ذاك الذي يغطي كامل جسد المرأة، وهو امتداد لأنواع اللباس التقليدي: النقاب والبرقع والعباءات الفضفاضة السوداء (السعودية والخليج) وهو الذي تدعو إليه الوهابية والباكستاني أبو الأعلى المودودي. والثاني وهو ذاك الذي يسمى بالخمار، أي غطاء الرأس والأذنين دون الوجه، يسدل على ثوب فضفاض.

وقد أفتى في شأن هذا النوع من الحجب شيوخ السّلفية القدامى والجدد. ويختلف هذا النوع من الحجب في الشكل واللون وطريقة الإستعمال والوظيفة عن الحجب التقليدية، فهي موحدة لدى المنتميات لهذه الحركة ونصيراتها في جميع البلدان.

3- تاريخ الحجاب

الحجاب ظاهرة قديمة في التاريخ وسابقة للأديان. فالمرأة البابلية كانت تأتزر بمآزر من الكتان الأبيض، تماما كما الرجل، تغطي كامل جسمها مع ترك أحد كتفيها عاريا. وتخفي المتزوجة شعرها بمنديل وتغطي وجهها بحجاب شفاف لما تخرج إلى الشارع. وترتدي عباءة تفرقها عن الرقيق والبغايا.

وتضع المرأة الآشورية المتزوجة عباءة وتسفر عن وجهها فقط عند خروجها إلى الشارع، بينما تظل العاهر والخادم سافرة، وإن خالفت هذه القاعدة عوقبت بالجلد(2).

وعرف الفرس والتركمان والإغريق والرومان واليونان وغيرهم من الشعوب الحجاب. وكانت ظاهرة حجب المرأة عند اليونانيين، من الظواهر الأشد قساوة على المرأة، إذ لا يراها إلا زوجها وأولادها وتمنع من ارتياد الأماكن العامة ومن الإهتمام بالشأن السياسي والإقتصادي وغيره. واعتبر صوتها عورة من الواجب حبسه في البيت، تماما كما يحبس جسمها.

فقد خول القانون اليوناني والعقائد الدينية السائدة للرجل العيش طليقا باعتباره محاربا ومنتجا ومنشغلا بالشأن العام ومعيلا لأهله. أما المرأة، فهي في نظره، بحكم بنيتها الجسمانية، ليست صالحة لغير الأعمال المنزلية والإنجاب، لذلك يكون من الطبيعي والأفضل لها أن تظل في البيت.

أما الحجاب عند العرب فإنه لم يكن مقصورا على المرأة، بل كان يرتديه الرجال أيضا للإحتماء من لفح الصحراء والرمال، ويتخفى وراءه الفرسان ممن يطلب ثأرا أو من الذين يضمرون لهم العداء. وكلمة الحجاج ابن يوسف لمّا ولّي على العراق بليغة الدلالة في هذا المضمار، فهو القائل " …متى أضع العمامة تعرفوني..".

ويرتديه إلي اليوم رجال الطوارق، زيادة على أن رجال بعض قبائل شمال إفريقيا يتبرقعون في حين أن نساءها سافرات.

وللتأكيد أن النّقاب والحجاب لم يكن ارتداءهما مألوفا لدى المرأة العربية حتى في مرحلة الإسلام. ورد في كتب السّير أن عائشة خرجت مرّة، عند باب المدينة، مرتدية نقابا، لرؤية صفية السّبية اليهودية التي أعتقها محمد وتزوجها. فتعرّف عليها عمر وناداها باسمها مشيرا إلى أنها لم تكن في حاجة للتخفّي وراء برقع لأنها معروفة ولا يعسر التّعرف عليها أينما مرّت.

وكان البغايا عند العرب يرتدين البرقع لإخفاء وجوههن كلما خرجن من بيوتهن حتى لا يتم رصدهن.

لقد رافق تنامي الثروات في المجتمع العربي، مع التّوسع العسكري وإخضاع شعوب وأمم أخرى وتحول الدولة العربية التي ظهرت على المسرح الدولي لتوّها إلى إمبراطورية عربية- إسلامية، ظاهرة اقتناء الإماء بالمئات أو الآلاف، بالنسبة للبعض، كدلالة على الغنى وتنامي الحريم الذي كان موضوع تفاخر فيما بين كبار طبقة الأثرياء. فقد كان للرجل عدد كبير من الزوجات و الجواري والإماء، وجميعهن ملكيته الخاصة، مقننة شرعا، تقول الآية:

"وانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع وما ملكت أيمانكم...".

ولتأكيد ملكيته الخاصة لهن اجتماعيا فقد التجأ الرجل إلى الخمار الذي يحمل علامة خاصة وله شكل ولون ومظهر خاص به يميّزه عن غيره، يحمي حريمه.

ويؤكد ابن سيرين عالم من القرن الأول توفي سنة 110 هـ، أن النقاب عند العرب لم يكن سوى موضة لباسية، لم يتحول في القرن الأول للهجرة بعد إلى ظاهرة شائعة الإستعمال في المجتمع الناشئ.

4- كيف ظهر التمييز بين المرأة والرجل

لم تعرف الشعوب البدائية ظاهرة التمييز بين المرأة والرجل. وكانت تجهل الدين والقانون والملكية الفردية وتقاسم الثروة. وظل الإنسان الطبيعي على هذا النحو مئات آلاف السنين. لكن المشهد تغيّر تدريجيّا في إطار صيرورة طويلة انتهت بانقسام المجتمع البدائي إلى قبائل زراعية وأخرى رعوية. وظهرت، في هذا الطور الجديد من التنظيم الإقتصادي والعمل المنتج، أشكال جديدة من التنظيم الإجتماعي أخذت فيها المرأة مواقع مختلفة.

ففي القبيلة الحضرية احتلت المرأة مكانة أفضل بكثير من شقيقتها في القبيلة الرعوية. ومرد ذلك هو أنها كانت أول مزارع في التاريخ. فقد حذقت الزراعة والحصاد والطحن والطهي، وتمكنت من ضمان "الوفرة" لحياة القبيلة. واكتشفت العديد من خصائص الأعشاب التي استعملتها في المداواة. كما اكتشفت "الخميرة" التي أدخلت طعما خاصا على الغذاء واكتشفت "ماء الحياة" والغزل والنسيج واستعملت النّار للطهي وتصليب أواني الطين. فأخذت أغلب هذه المجتمعات، في أشكال تنظيمها، طابع المجتمعات الأمومية.

أما في القبيلة الرعوية، التي كانت تقوم ثروتها على عدد الحيوانات التي تمّ ترويضها، فقد كان الرجل هو المنتج الرئيسي لهذه الثروة، إذ مرّ، في ظروف معينة، من الصيد والقطاف إلى ترويض الحوانات، بينما كانت المرأة منشغلة بالأولاد وبالإقتصاد البيتي. لذلك احتلت المرأة مكانة ثانوية في حياة المجتمع الرعوي وكانت تابعة للرجل في تأمين معاشها ومعاش أولادها.

وقد تحوّلت القبائل الرعوية يصورة مبكرة إلى أقوام تعيش على الحرب والسلب والنهب. ومرت من سرقة الحيوانات وحرق المؤن والمدخرات إلى أسر الأبناء واستعبادهم وسبي النساء والتزوج منهن عنوة. وكان لهذا الزواج القسري أثره البارز في تاريخ الإنسانية، إذ وطد اضطهاد المرأة.

وعلى هذا الأساس يمكن القول أن القبائل الرعوية كانت موطن نشأة النظام الأبوي.

إن ظهور الملكية الخاصة وميلاد المجتمع العبودي، أفقد المرأة، في القبائل الزراعية، مكانتها كمسؤولة أساسية على تأمين حاجات القبيلة، حيث أن تقسيم العمل أتاح للرجل احتكار العمل المنتج وأزاح المرأة إلى موقع ثانوي. ومع اكتمال هذا الإنقلاب الإقتصادي والإجتماعي أضحت المرأة تابعة وخاضعة تماما للرجل.

ومع ظهور الملكية الخاصة، انفصل الإقتصاد المنزلي، عن اقتصاد القبيلة، فعزّز احتكار الرجل للعمل المنتج داخل الأسرة الضيقة وحكم على المرأة أن تصبح أسيرة العمل غير المنتج داخل البيت وفقد عملها أهميته الإقتصادية وأصبحت تبعا لذلك إنسانا "لا مكانة له" مقارنة مع "صاحب المكانة الجديدة" الرجل.

واتجه هذا التمايز، بين المرأة والرجل، مع النظام الإقطاعي إلى مزيد من الحدة، حيث أن شبكة الخضوع والتبعية المفروضة على مراتب النبلاء والأمراء فرضت تبعية عمياء وخضوعا مطلقا على الفلاح والفلاحة للسّيد. لكن القنّ المستعبد كان سيّدا فعليا داخل الأسرة، يفرض الطوعية والتبعية على زوجته وأبنائه، تماما كما الفارس والنبيل، رغم الفوارق الطبقية التي تفصل بين الطبقتين.

ولمّا بلغ النّظام الإقطاعي ذروة تطوره ترك مكانه لنظام اقتصادي جديد، النظام الرأسمالي، تميّز منذ ولادته عن أنماط الإنتاج التي سبقته بكونه لا يعتمد على العبيد ولا على الأقنان في إنتاج الثروة، بل على عمل الأجراء الأحرار الذين يبيعون قوة عملهم للرأسمالي. وهؤلاء الأجراء الأحرار، هم الفلاحون الفقراء والمشردون والحرفيون المفلسون الذين لفضهم انهيار النظام الإقطاعي.

وبما أن نمط الإنتاج الناشئ يتوسع باستمرار ليغزو أسواقا جديدة ويزيد في الإنتاج ويدفع بقوى عاملة جديدة إلى دائرة الإنتاج، وبما أن التنافس بين الرأسماليين يدفع إلى البحث الدائم عن اليد العاملة البخسة ضمانا لربح أوفر، فقد دفع بالنساء كما الأطفال إلى دائرة الإنتاج.

وهكذا خرجت المرأة من البيت إلى العمل المنتج لفائدة المجتمع ككل، فأصبح معترف به اجتماعيا، وبذلك برزت الشروط الموضوعية لتحررها. وبما أن خروجها من البيت حدث لأنها أصبحت "عاملة" فإن تحررها ارتبط موضوعيا بتحرر الطبقة العاملة وانتفاء استغلال واضطهاد الإنسان للإنسان.

وتكابد المرأة اضطهادا مثلث الأبعاد، يتمثل:

أولا في عدم اعتراف الدولة والمجتمع بحقوقها ومعاملتها كإنسان دوني.

وثانيا في مواصلة استعبادها واسترقاقها داخل أسرتها بالذات.

وثالثا استغلالها من قبل النظام الرأسمالي، باعتبارها قوة عمل معروضة في سوق الشغل.

ونخلص إلى القول أن أصل التمييز بين المرأة والرجل يعود إلى التمييز الذي حصل في العمل المنتج الضروري لحياة العشيرة والعائلة ثم أصبح كامنا في الملكية الخاصة لمّا باتت تمثل أساس الفوارق الإجتماعية.

وعلى أساس هذا الواقع المادي لحياة النّاس وللتمييز الجنسي بينهم ظهرت الشرائع والعادات والتقاليد والقوانين والنظريات والفلسفات والعقائد والديانات لتبرره أو لتلطفه أو للثورة عليه بهدف تغييره. وعلى أساس هذا الواقع المادي بالذات تعانق المرأة عالم الحرية.

5- أسباب ظهور الحجاب كامنة في التمييز

في العمل المنتج وفي الملكية الخاصة

وتعود أسباب فرض الحجاب على المرأة، منذ العهود الغابرة، إلى عوامل اقتصادية صرفة، أي إلى التمييز في العمل المنتج المعترف به اجتماعيا، أي ذلك الذي تتوقف عليه حياة المجموعة البشرية، ثم إلى بروز الملكية الخاصة وانقسام مجتمع المشاعة البدائية، على أساسها، وظهور المجتمع الأبوي. وفي هذا الطور بالذات بدأت العائلة الضيقة في الظهور ومعها نشأت ظاهرة نقل الملكية، عندها أصبح الرجل يفكّر في أهمية عفّة المرأة / الزوجة التي ستضمن له نقاوة سلالته، فوجد ضالته في حجبها وحبسها كي يطمئن على من يورثه ثروته.

ومنذ تلك اللحظة فرض عليها ألاّ تظهر في الشارع إلا محجبة أو منقبة أو مخمرة، كدليل على أنّها امرأة حرّة ومتزوجة، وبالتالي ملكية خاصة لرجل. وهذا النوع من الملكية يختلف عن ملكيته للجواري والغواني والبغايا والإيماء. لأن ملكيتهن قابلة للنّقل من يد إلى أخرى، كما "الأشياء"، ولذلك بالذات فإنها خارج علاقة نقل الملكية والتوريث.

والجدير بالملاحظة أن أشكال حجب المرأة قد اختلفت من حضارة إلى أخرى، وظل جوهرها واحدا، وهو أنّها كرّست تبعية المرأة للرجل، وليس هذا فقط، بل جعل منها ملكيته الخاصة، غير القابلة للتبادل بصورة عامة.

لكن الرأسمالية التي دفعت بالمرأة، التي تمثل نصف المجتمع، إلى الإنتاج الإجتماعي ووفرت الشروط الموضوعية لتحررها، لم تعد تقبل بالتخلي عنها والقبول بعودتها إلى الجمود، باعتبارها تمثل مكوّنة أساسيّة لتحقيق الرّبح للرأسمالي. والرأسمالية ذاتها هي التي جعلت من "السفور حقيقة شاملة للمرأة والرجل" على حد السواء. وإن الدعوة، في عصر العولمة، إلى العودة للحجاب، هي دعوة للعودة إلى عصور الظلام، وبالنسبة للعرب العودة إلى مرحلة الإستعمار العثماني المظلمة، وبالتالي فإنها تمثل حركة ارتدادية بالنسبة لحركة الواقع والتاريخ، وهي ذات طبيعة رجعية لا غبار عليها.

ونؤكد أنه إذا كانت هذه العودة مستحيلة في ظل النظام الرأسمالي، بحكم حاجته الدائمة لاستغلال قوة العمل، كي يحقق مزيدا من الرّبح، فإنها تصبح مستحيلة في ظل الإشتراكية لأن العمل يصبح واجبا من الواجبات المدنية. فالرأسمالية التي حولت عمل المرأة المنتج إلى عمل معترف به إجتماعيا، بإدخالها في دورة الإنتاج، وربطت مصير تحررها موضوعيا بتحرر الطبقة العاملة من الإستغلال والإضطهاد. فإن الإشتراكية التي تقضي على الميز في العمل وتجعل منه، قيمة اقتصادية واجتماعية، سواء كان عملا منزليا أو إنتاجيا، وبالتالي قيمة مدنية، توفّر الشروط الموضوعية لإعادة الإعتبار للعمل المنزلي غير المعترف به كي يأخذ مكانه في المجتمع، ليصبح من مشمولات المرأة والرجل سويّة.

6- الأديان وحجب المرأة

سنتناول في هذه الفقرة موقف الأديان الثلاثة، اليهودية والمسيحية والإسلام، من حجب المرأة:

أ- اليهودية القديمة تفرض الحجاب على المرأة

فرضت الديانة اليهودية القديمة على المرأة/الزوجة، عند خروجها إلى الشارع، أن تغطي رأسها وتستر كامل جسدها بملاءة، وألا تترك سوى ثقب واحد تنظر من خلاله لترى الطريق. ويكون من الأفضل لها أن لا تخرج من البيت، حتى وإن كان للتّعلم وإن أرادت ذلك فليكن في البيت وبموافقة زوجها. وسبب هذا المنع من الخروج والشروط الصارمة عليه تعود إلى حرص الدين اليهودي على عفّة المرأة، بدعوى "نقص عقلها" و"ميلها فطريا إلى الشّر"، وهو غرض يتماهى فيه مع حرص الرجل/الزوج لضمان "نقاوة النسل" عند نقل الملكية الخاصة.

لذلك استحدثت اليهودية الحجاب الساتر في المعابد للفصل بين الرجال والنساء وخصتهن بمدخل خاص في المعابد، ومنعتهن من مصافحة الرجال، باعتبارهن مصدر إثارة جنسية، وفرضت عليهن الصمت داخل أماكن العبادة باعتبار أن صوتهن عورة. ولهذا السبب بالذات منعن من ارتقاء المنصة خلال الصلاة وتلاوة التوراة بصوت عال.

وقد عرف العبرانيون الحجاب منذ القدم وأوصى به أنبياؤهم جميعا. وقد ترددت كلمة البرقع في أكثر من كتاب من كتب العهد القديم. ورد في الاصحاح الرابع و العشرين من سفر التكوين، "رفعت رفقة عينيها فرأت إسحاق، ترجّلت عن الجمل وسألت العبد.. "من هذا الرجل الماشي في الحقل للقائنا ؟ فقال العبد هو سيّدي، فتناولت الحجاب وتغطت"(3). وجاء في الإصحاح الأول:" قل لي يا من تحبه نفسي أين ترعى قطعانك وأين تربض بها عند الظهيرة؟ فلماذا أكون كإمرأة مقنعة أتجول بجوار قطعان أصحابك" وفيه أيضا "... عيناك من وراء نقابك كحمامتين ... وخداك كفلقتي رمانة خلف نقابك"(4). وورد في التوراة أيضا أن الله سيعاقب بنات صهيون على تبرجهن وتباهيهن برنين خلاخيلهن...الخ (5)

ب- المسيحية القديمة تفرض هي الأخرى الحجاب

على المرأة

منعت المسيحية المرأة من أن تخرج عارية الرأس دون نقاب وإذا خالفت الأمر وذهبت إلى الكنيسة عرضت نفسها إلى عقاب بقص شعرها، حسبما كان أكده القديس بولس الذي اعتبر "أن النقاب شرف للمرأة". (6) ودعا الأب كليمون الإسكندري المرأة إلى تغطية كامل جسدها كلما خرجت من البيت لحماية نفسها من نظرات الرجال. وأكد أن ارتداء المرأة الخمار زيادة على كونه يحمي الرجل من الوقوع في الخطيئة فهو مشيئة الكلمة الربانية التي تأمر المرأة أن تصلي وهي محجبة (7).

وتجاوزه الأب تيرتوليون، لمّا فرض على المرأة، زيادة على الخمار وستر وجهها بنقاب، إخفاء مفاتنها وعدم الإعتناء بجمالها الطبيعي والسعى إلى القضاء عليه لما يمثله من خطر على الرجل. والخمار في نظره هو ذاك الذي يحجب جسد المرأة من رأسها إلى أخمص قدميها (8). وزيادة على هذه الأشكال من التشدد، فقد منعت المسيحية المرأة من تزيتن الحجاب وزركشته، وكل من تفعل ذلك "تصنف مع النساء اللاتي خلعن برقع الحياء" (9).

ومرّ الحجب من اللباس إلى حبس المرأة في البيت، بحيث فرض عليها ملازمة بيتها ومنع رؤيتها من قبل أي كان، باستثناء زوجها وأبنائها. وعلى هذا الأساس منعت من الذهاب إلى الحمام والمسرح وارتياد الساحات العامة والتجول في الشارع، وإن فعلت ذلك تعرضت لمضايقة الرجال وأوقعهم في الخطيئة.

لقد تعرضت الديانتان اليهودية والمسيحية إلى حجب المرأة ليس باعتباره أمرا إلهيا، (باستثاء ما ورد على لسان الأب كليمون الإسكندري)، بل بصفته عادة وتقليد ورفعة أخلاقية، بحيث أن كتب العهد القديم وكتب العهد الجديد لم تتعرض للنقاب إلاّ بصفته مجرّد ظاهرة في حياة النّاس.

ج- الحجاب في الإسلام ليس رمزا دينيا

ولا فرضا شرعيّا

لم يشذ الدين الإسلامي عمّا كان سائدا في مجتمع الجزيرة آنذاك ولا عن الرؤية للأشياء والظواهر التي كانت عرفتها الكعبة، باعتبارها ملتقى الثقافات والديانات والعقائد والفكر والسياسة والتجارة. فقد حافظ على التمييز بين المرأة والرجل، الذي كان قائما، دون أن يضفي عليه التّشدد الذي كانت عرفة شعوب أخرى وتضمنته ديانات أخرى (اليهودية القديمة والمسيحية القديمة)، حيث أنه لم يتعرض لحجب المرأة إلا في ثلاث مناسبات خصّ بالأولى زوجات النبي وحدهن دون أن تشمل بأيّ حال نساء المسلمين. تقول الآية:

"يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إياه ولكن إن دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ولا تستأنسون لحديث إن ذلك كان يؤذي النّبي فيستحي والله لا يستحي من الحق. وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب ذلك أطهر لقلوبكم وقلوبهن وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله و لا أن تنكحوا أزواجه من بعده ذلكم كان عند الله عظيما"(10).

وهي تعني في مدلولها وضع ستار يفصل زوجات الرسول عن الرجال الذين يدخلون بيته. ويذهب المفسرون لهذه الآية مثل الطبري والزّمخشري و البيضاوي وابن كثير والقرطبي نفس المذهب.

ويتضح من خلال العودة إلى أسباب النزول، أن المبرر الأصلي كان عزل نساء الرسول عن الرجال، سواء اعتمدنا على رواية زواجه بزينب بنت جحش (التي كانت زوجة زيد ابنه بالتّبني) أو على الرواية القائلة بأن عمر ابن الخطاب هو الذي أشار على النبي بـ"أن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر فلو أمرتهن أن يتحجبن"، فنزلت الآية.

والقصد من الروايتين واضع وهو وضع ستار أو حجاب بين زوجات الرسول وبين الرجال، حتى إذا طلب أحدهم حاجة من واحدة منهن لا يراها و لا تراه.

والحجاب بالمعنى الوارد في الآية المذكورة أعلاه خاص بزوجات الرسول دون غيرهن ولا يمتد إلى ما ملكت يمينه من الجواري ولا إلى باقي المؤمنات.

أمّا الثانية فتتعلق بالخمار وهي آية تغييرعادة لباسية لتمييز الشريفات دون غيرهن. تقول الآية:

"وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلاّ ما ظهر منها وليضربن بخمورهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلاّ لبعولهن أو أبناءهن أو آباءهن أو آباء بعولهن أو أبناء بعولهن أو أخوالهن أو أبناء أخوالهن ونساءهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولي الأربة من الرجال... أو الأطفال الذين لم يظهروا على عورات النساء ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن و توبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون"(11).

ويجمع المفسرون أن للآية قصد واضح وهو إسدال الخمار، الذي كان يغطي الرأس ويلقى على الظهر إلى الخلف فيبقي الصدر و العنق عاريان، لسترهما وإبداء من الزينة ما ظهر.

وإن علّة الحكم في هذه الآية هي تعديل عادة لباسية كانت موجودة ومقصدها هو تغطية الصدر بدلا من كشفه، دون أن تحدّد زيّا بعينه دون غيره. فالخمور كانت لباسا شائعا بين النساء عند العرب، وهي أغطية توضع على الرأس و تسدل وراء الظهر ويبقى الصدر مكشوفا.

وتتعلق الثالثة بآية الجلباب. والجلباب هو الرداء أو هو ثوب أكبر من الخمار. وهو في الحقيقة الثوب الذي يستر كامل الجسم. وهو لباس خاص بالحرائر دون غيرهن.

و مقصد آية الجلباب هو تمييز زوجات الرسول وبناته ونساء المؤمنين في مكة، دون غيرهن، حتى لا يلحقهن أذى. تقول الآية :

"يا أيها النّبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين"(12).

وسبب نزولها هو أن العربيات كن يقضين حاجتهن في الصحراء، فكان البعض من الرّجال يعترض سبيلهن لمضايقتهن أو للتعدي عليهن، فشكون الأمر للنبي، فنزلت الآية.

ومقصدها هو وضع فرق بين زوجات وبنات الرسول ونساء المؤمنين وبين غيرهن من الإماء وغير المؤمنات، عن طريق الجلابيب، حتى يعرفن فلا يتعرضن للأذى بالقول أو بالفعل.

وبما أن الغرض كان التمييز، يروى أن عمر بن الخطاب كان إذا رأى أمة ترتدي الجلباب أو تقنعت، ضربها بالدرة، محافظة منه على الزّي الذي يميّز الحرائر.

وقد أكد الأستاذان، أشرف عبد الفتاح عبد القادر والمستشار محمد سعيد العشماوي، لهما كتابات ذات شأن، أنه:

"لا يوجد في القرآن الكريم كله أو الحديث النبوي أمر يفرض النقاب".

وأن آية الخمار:

"تنص على غطاء الجيب أي فتحة الصدر بطرف الخمار"، و"لا تعني أبدا غطاء الوجه وهو أمر متفق عليه في جميع التفاسير المعتمدة".

أما عن السنة، فقد ورد حديثان لتعديل عادة لباسية. روي عن عائشة أن النبي قال:

"لا تحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر إذا عركت ( بلغت) أن تظهر إلا وجهها و يديها إلى هاهنا". وقبض على نصف الذراع.

وروي عن أبي داود عن عائشة أن أسماء بنت أبي بكر دخلت على رسول الله، فقال لها:

"يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى فيها إلا هذا وأشار إلى وجهه وكفيه".

وقد لاحظ المستشار محمد سعيد العشماوي في كتابه "حقيقة الحجاب وحجية الحديث" أن هذين الحديثين هما من أحاديث الأحاد المجمع عليها. وهي أحاديث تعتمد للإسترشاد والإستشهاد، ولا تلغي ولا تنشئ حكما شرعيا. زيادة على كون المصدر واحد هو عائشة، وفي الحديثين تناقض صارخ، في الإشارة مرة إلى الوجه والكفين وأخرى إلى نصف الذراع، ومن جهة ثانية فقد ورد الحديث الأول في صيغة الحلال والحرام، أي في مقام حكم شرعي، وأتى الثاني في صيغة إصلاح، يتعلق بما هو أفضل وأنسب في ظل ظروف معينة.

وخلاصة القول أن الدين الإسلامي لم يأمر بالخمار أو الحجاب أو النقاب، ولم يجعل منه رمزا دينيا ولا فرضا شرعيا تأثم المرأة إذا تركته. والجدير بالذكر أن نساء المسلمين ونساء الرسول، لم يكنّ يغطّين وجوههن بل كنّ سافرات وكنّ تشاركن في الحياة العامة.

وظلت المرأة على هذه الحال طوال العهد المحمدي والخلفاء الراشدين. وتواصل الوضع على حاله تقريبا إلى حدود انهيار الدولة العبّاسية تحت ضغط المماليك وضربات هولاكو وهجمات الأتراك العثمانيين.

وتعرضت المرأة إلى الإمتهان في تلك الحروب والغزوات ممّا اضطرها إلى ارتداء اليشمق أو البرقع، كلما خرجت إلى الشارع.

وأصبح الخمار مفروضا، في العهد العثماني، كلباس باسم الدولة والدين. وهي المرحلة التي سيطر فيها النظام الإقطاعي في شكل استبداد شرقي، وفرضت فيها التبعية على الجميع، وشهدت المرأة العربية عصور ظلام قاسية.

ويتضح مما سبق بيانه أن حجب المرأة لاعلاقة له بتعاليم الدين الإسلامي، وأن الداعين إلى الخمار أو الحجاب أو النقاب، يريدون العودة بالمرأة ومن ورائها المجتمع إلى عصور الظلام، ظلام الإقطاع العثماني الإستبدادي. تلك هي الرموز الحقيقية التي يحاولون تمريرها متسترين بالدين.

6- الحجاب يؤسس للمرأة الجنس

إن عزل المرأة عن الرجل بواسطة الحجاب/الستار، في المجال البيتي، يعني حصرها في مجال مغلق، خوفا على "عفتها" للمحافظة على نقاوة النسل ضمانا لنقل الملكية. ويأخذ المجال البيتي المغلق بعدا جنسيا، يتمكن فبه الرجل من النيل الكلي منها متى شاء و كيفما شاء. ومدلول ذلك تؤكده الآية:

"ونساؤكم حرث لكم فآتوا حرثكم أنّى شئتم"(13).

وهذه المرأة الجسد/ اللذة، تتكرّر صورتها في النظريات والمشاريع المجتمعية وفي المعتقدات والديانات والشرائع. ورد في الأحاديث النبوية:

" المرأة كالضلع إن قومته كسرته فدعه تستمتع به على عوج".

وفي حديث آخر:

" المرأة عورة فإذا خرجت استشرقها الشيطان ".

وهذا الجسد/اللذة لا بد من تغطيته بكساء فضفاض "لا يشق" و"لا يصف" و"لا يتشبه" بالرجال ولا يترك ثناياه تبرز للعيان، لأن في ذلك فتنة.

وإذا كان مجتمع الاستهلاك يشيء المرأة ويضعها في وجه من الأوجه في مرتبة قيمة استعمالية جنسيّة، فإن الأصوليين بمطالبتهم تحجيب المرأة يمثّلون الوجه الآخر من نفس العملة. فهم ينظرون إليها كشيء للمتعة واللذة لا غير، ويخفون نظرتهم الجنسية بتبريرات أخلاقية وعقائدية. ومنهم من ذهب بهوسه الجنسي إلى أقصاه، فاعتبر أن الحجاب يؤجج الشهوة الجنسية تجاه المرأة ليبلغ التمتع والتلذذ بها أقصى درجاته:

"إن الإسلام وضع نظما جديدة تعطي للمرأة حقّها باعتبارها نصف المجتمع...فحدد لها ثيابا خاصة تلبسها، حتى لا تكون ممتهنة أمام الناس، فقرر الحجاب.

والحجاب عبارة عن ستر لجسد المرأة كلّه ما عدا الوجه واليدين وهذا ليس تقييدا لحرية المرأة لكنه تكريم لها ( كذا...)، حتى إذا ما ذهبت إلى بيت الزوجية كان الزوج يتشوق أن يرى غير الوجه والكفين وهذا دعم للعلاقة الزوجية بين الزوجين"(14).

ولا يشذّ موقف السيد راشد الغنوشي اليوم عن النظرة السائدة للمرأة في الحركة الإسلامية، وإن وجدت اختلافات فهي جزئية. ففي معرض حديثه عن "الصحوة الإسلامية" قابل بين المجتمع الحالي الذي تحولت فيه شوارع المدن "لسنوات طويلة بضغط الرأسمالية المتفسخة إلى معارض للنخاسة"، وبين بذور المجتمع الإسلامي الذي تظهر فيه المرأة في الشكل الذي يحلم به، إذ "أخذت(شوارع المدن ) تحفل بشكل متنام- رغم القيود- بالرايات الإسلامية رايات العفة والطهر تحملها فتيات في عمر الزهور متحديات طغيان أصولية علمانية متطرفة، ابتلت بها تونس أشد من كل وطن عربي "(15).

يقرن الغنوشي، اعتباطيا، الفساد وسوق النخاسة والإنهيار الأخلاقي بالعلمانية المتجبرة، والعفة والطهر بالحجاب والخمار والنقاب بالإسلام وبالهوية. ولا حاجة للتذكير بأن الفساد والطهر والإستقامة والسرقة والدعارة، هي ظواهر أخلاقية- إجتماعية ملازمة للمجتمعات الطبقية، ساستها دول علمانية أو دينية. ويحمل المسؤولية اعتباطيا "للعلمانية المتجبرة" ولجسد المرأة الذي ينبغي حجبه باعتباره مجلبة للفتنة والإثارة.

وهو ما يؤكد أن المشروع "الإسلامي" الذي تعمل حركة النهضة، وغيرها من الحركات الأصولية، على إرسائه هو مجتمع التمايز والتفرقة الطبقية والجنسية والسياسية والثقافية والعقدية تحت غطاء ديني.

إن علاقة الرجل بالمرأة، مصاغة في المفهوم التقليدي والأصولي، تجعل من المرأة فريسة للّذة الفردية والجماعية للرجل وخادمتها. وهو يكشف عن "الإنحطاط اللامتناهي للإنسان الذي لا يوجد إلا لذاته"(16)، والذي تكرسه علاقة الرجل بالمرأة في شكلها المباشر، الطبيعي والضروري. ويظهر في هذه العلاقة بالذات، بصورة ملموسة المقدار الذي تصبح فيه ماهيّة الإنسان قد أصبحت الطبيعة بالنسبة إلى الإنسان ذاته.

وإن علاقة الرجل بالمرأة هي، بكل تأكيد، علاقة الإنسان بالإنسان الأكثر طبيعية. "لكن الملكية الخاصة قد جعلتنا على درجة من البلاهة ومن ضيق الأفق بحيث أن الشيء لا يكون شيئنا إلا عندما نملكه....، وعندما نستهلكه..."(17). وقد عوضت جميع حواسنا بحس واحد، وهو حس التملك. ووضعت جميع الحاجات الطبيعية للإنسان، مثل الحاجة إلى الغذاء وحاجة الغريزة الجنسية، في مستوى واحد. وهو ما أدى بالإنسان إلى الإنحدار إلى مستوى من الفقر الداخلي المطلق.

لقد مرّ الإنسان في تاريخه من الإنسان الطبيعي إلى الإنسان الإجتماعي، فأصبحت حاجاته إنسانية أكثر فأكثر، وتعرضت غريزة الجنسية أيضا إلى سلسلة من التحولات، كانت في البدء وسيلة تلبيتها حيوانية فأصبحت "أعظم تقدم أخلاقي" بلغته الإنسانية، تمثلت في "الحب الجنسي الفردي المعاصر"(18).

وبهذا المعني يحدد موقف الرجل من المرأة مستوى تحول سلوك الإنسان من طوره الطبيعي إلى سلوك إنساني.

ومن هذه الزّاوبة نعتبر أن وجهة النظر التي يقدّمها لنا دعاة حجب المرأة، ليست سوى إرادة جعلها فريسة اللّذة الفردية للرجل وخادمتها، باعتبارها ملكيته الخاصة، وفريسة اللّذة الجماعية وخادمتها، باعتبارها ملكية خاصة/عامة، أي بفرض التعهر عليها.

وتنحدر هذه النظرة بالإنسان إلى المستوى الطبيعي، لأن المدافعين عنها لا يدركون أن الإنسان الذي يلبي حاجات غريزتهم الجنسية هي إنسان وليست شيئا، وأن التعامل معها كإنسان ناقص أو كشيء يجعل العلاقة القائمة بين الرجل والمرأة تأخذ شكلا حيوانيا. إذ انطلاقا من تحديد نوعية هذه العلاقة يمكن أن نحكم على كل مستوى من مستويات ثقافة الإنسان. "وفي هذه العلاقة أيضا يتجلى مقدار ما أصبحت حاجة الإنسان إنسانية، وبالتالي مقدار ما أصبح الإنسان الآخر كآخر حاجة بالنسبة إليه، ومقدار ما يكون في الوقت نفسه، في وجوده الأكثر فردية، كائنا إجتماعيا"(19).

إن النزعة الإنسانية التي تتحقق في العلاقة بين الرجل والمرأة هي نضال مستمر يخوضه الإنسان ضد تقاليد الوجود الطبيعية والإجتماعية المفروضة عليه والتي يعمل على تغييرها كي يتطور ويستكمل أبعاده. ويتجلى هذا الإرتقاء والإستكمال في المساواة التامة بين الجنسين ورفض كل أشكال التمييز وفي مكانة المرأة في الأسرة والمجتمع وفي مسألة الزواج والحب.

لكن العبوديات النابعة من علاقات الإنتاج سحقت الحب، ذلك التفتح الرائع للشخص الإنساني، واضطهدته وضربه التحريم. وليس هذا فقط، بل كان دائما مهددا من قبل نداءات الغريزة الغاشمة والفرد العاجز عن الإنعتاق من العبوديات الإجتماعية. ذلك الفرد الذي أضحى عبد غريزته، خاصة وأن علاقاته بالآخر غلبت عليها المصالح. وتفاقم عجزه لمّا تشيأ الجسد وجميع الحاجات المادية والمعنوية للإنسان بما فيها الحب.

لذلك فإن الحب لن يتحرر من الإضطهاد والسحق والإستهتار الإباحي ومن الكذب والرّياء ومن اللهث وراء تلبية حاجة غريزية، إلا متى تركت الملكية الخاصة مكانها للملكية العامة وتحرر الإنسان، المرأة والرجل، من التمايز الإقتصادي والإجتماعي وبالتالي الطبقي، وتحققت حرية المرأة ومساواتها التامة مع الرجل، ومتى أصبح الحب الأساس الذي يقوم عليه الزواج وتنشأ عليه الأسرة، أي في ظل الإشتراكية.

7- اللباس ظاهرة حضارية

اللباس يدخل في إطار العادات والتقاليد الخاصة بالمجتمعات وبالطور الحضاري الذي تمرّ به، وهو يضرب بأصوله في الأعراف القديمة. وتتداخل أشكاله وتنسجم وتتشابه وقد تأفل، بتلاقح الحضارات، رغم اختلاف الثقافات والمعتقدات والشرائع. فالإنسان البدائي كان لا يفرق في اللباس بين المرأة والرجل ولا يرى ما في جسده أو جسد المرأة ما يمثل عورة. وهي علاقة ونظرة مازالت قائمة إلى اليوم لدى قبائل الأدغال الإفريقية والآسيوية والأمريكية البدائية.

وكشفت الحفريات الأثرية معلومات عن حياة الإنسان وعاداته وتقاليده، وممّا يثير الإنتباه هو أن ملابس الرجال والنساء كانت متشابهة ولها نفس الطول. بينما اختلف الأمر عند الآشوريين حيث كان الميز واضحا بين الجنسين، إذ أن المرأة المتزوجة تضع عباءة تسفر عن وجهها فقط عند الخروج إلى الشارع.

وليس عسيرا أن نلاحظ التقارب الكبير بين اللباس الباكستاني والهندي، سواء بالنسبة للمرأة أو الرجل، وهو لباس قومي للهندوس وليس له علاقة بالدين، يرتديه المسلمون والبوذيون وغيرهم من أصحاب الديانات الأخرى.

لقد كانت تغطية الرأس في بلادنا، كما في البلدان العربية، بالشاشية أو الطربوش أو العمائم أو الطواقي أو ما يماثلها، مفروضة على الرجال، بمختلف أوضاعهم الإجتماعية. فلم يكن من اللائق أو المقبول أن يقابل شخص مسؤولا أو حاكما أو أن يستقبل ضيفا أو أن يدخل مسجدا ليصلي دون أن يغطي رأسه دلالة على التقدير والإحترام والخضوع لله عند الصلاة.

ولمّا حدث التمايز بين المرأة والرجل وفرضت عليها التبعية ثمّ أسدلت عليها الحجب التي فرضت عليها كعادات لباسية. وتواصل الوضع على هذا المنوال في أغلب البلدان العربية إلى اليوم. وهو ما يؤكد أن أمر اللباس لا يتصل بالدين ولا يتعلق بالشريعة وهو لا يعدو أن غير عادة وموضة.

ومن التضليل والخداع أن ينزله البعض منزلة القواعد الدينية التي تفرق بين المتدين وغيره. ومن الزور أن يصبح الإيمان متعلّقا بقطعة من القماش أو بتسريحة محددة لشعر الذّقن أو بعطر أو بعود السوس. وما تدعو له الحركات الإسلامية بشأن الحجاب، لمّا حوّلته إلى "لباس شرعيّ"، هو من قبيل الإرهاب الإيديولوجي الذي تسلطه على النّاس لتخويفهم وإجبارهم على اقتفاء أثرها.

وبما أن اللباس شأن اجتماعي حضاري، فإن أجزاء من الجسم، دون غيرها، تأخذ صيغة العورة، تماشيا مع وعي الإنسان بذاته كإنسان ومع نظرته الخاصة لجسمه. إذ كلّما ارتقى وعيه تقلصت دائرة الجسم العورة لتقف في الحدود التي يفرضها الوعي الجنسي الإنساني. وتختلف هذه الدوائر حسب الوظائف والأدوار والأنشطة التي يقوم بها الإنسان. فالأجزاء الظاهرة للاعبة الجمباز والعدو والقفز والكرة الطائرة وغيرها من الرياضات النسائية أو لراقصة البالي لا تعد عورة، اللهم إلا إذا ذظرنا لها بصفتها جنسا، عندها نقضي على تلك الأنشطة النسائية بالفناء المبرم. وإلغاؤها، كما حدث في العديد من البلدان العربية الإسلامية، يعد كارثة حضارية، تماما كما تمّ إلغاء النحت والرّسم.

إن هذا الجبروت الجنسي هو انحدار بالإنسان إلى مستوى طوره الطبيعي، مهما كانت التبريرات الإيديولوجية والعقائدية التي يتعلل بها.

8- شعر المرأة ليس عورة

تقوم فكرة "الحجاب" على اعتبار شعر المرأة عورة وجب عدم كشفه تجنبا للإثارة. وللكشف عن حقيقة هذه الفكرة نحاول العودة إلى كيفية تعامل الإنسان مع الشعر للرجل كان أم للمرأة.

كان الرجال والنساء البابليون يطيلون شعر الرؤوس ويتخذون منه ضفائر يرسلونها على أكتافهم. ويتميز الرجال بإرسال لحيّهم. وكانت المرأة المتزوجة تخفي شعرها بمنديل لما تخرج إلى الشارع وترتدي عباءة للتمايز عن الإيماء والبغايا.

أمّا الآشوريون فقد فرضوا على المرأة المتزوجة تغطية شعرها والتحجب بعباءة لا تترك ظاهرا منها إلا وجهها، عند الخروج إلى الشارع، وعلى العاهر والعبدة أن تبقى سافرة وأن تكتفي بمنديل تغطي به شعرها.

في حين كان المصريون القدامى يحلقون شعورهم نساء ورجالا إظهارا للخضوع للآلهة في جميع مجالات حياتهم. ويضع الرجال على رؤوسهم أغطية من القماش وتضع النساء شعرا اصطناعيا للتزين. وماثلهم في هذا التقليد الكهنة البوذيين والهندوس ومازالوا على عادتهم إلى اليوم.

وبعد خروج العبرانيين من مصر تأثروا بالعادات الآسيوية فاتخذوا موقفا وسطا وصاروا يرسلون شعورهم ثم يعمدون إلى تغطيتها عند الصلاة، حيث وضع الرجال على رؤوسهم الطواقي ووضعت النساء الأخمرة عند الصلاة أو الدخول إلى المعبد.

وفي المسيحية تعرّض بولس الرسول إلى مسألة شعر الرأس قال:

"كل رجل يصلي أو يتنبأ وله على رأسه شيء يشين رأسه. وأما كل امرأة تصلي أو تتنبأ ورأسها غير مغطى فتشين رأسها... إذ المرأة إن كانت لا تتغطى فليقص شعرها..... هل يليق بالمرأة أن تصلي إلى الله وهي غير مغطاة..."(20).

ويمكن أن نفهم من موقف بولس الرسول أنه مزج بين العاداة اليهودية(في تغطية شعر المرأة عند الصلاة أو دخول المعبد) والرومانية (في تعرية شعر رأس الرجل).

لم يكن الشعر إذن عورة بل كان رمزا للقوة وتغطيته عند الصلاة أو حلقه تعبير للخضوع والطاعة لله.

كان العرب يرسلون شعورهم ولم يغيّر النبيّ محمد تلك العادة، وكان الرجال من المسلمون يغطون رؤوسهم عند الصلاة بطاقية والنساء يرتدون الخمار، خضوعا لله. فقد روي عن النبي قوله:

"لا تقبل صلاة الحائض(المرأة البالغ) إلا بخمار".

ودلالة هذا الحديث أن المرأة لم تكن تغطي عادة رأسها وأن الرسول أوصى بأن تغطيه وقت الصلاة فقط. وهو ما يؤكد أن النبي لم يكن يرى في شعر المرأة عورة. ولو كان الأمر كذلك لوردت أحاديث أو آيات لحجبه كما كان الشأن بالنسبة للجيب.

ومما لا شك فيه هو أن شعر المرأة في العصر السابق للإسلام وعند ظهوره وفي العهد الرّاشدي لم يكن عورة، وكانت تغطيته أو تعريته، كما الوجه، تخضع للعادات والتقاليد والموضات اللباسية والمكانة الإجتماعية للمرأة في العائلة والقبيلة.

إن حجب شعر بدعوى أنه عورة ليس سوى عمل سياسي القصد منه استغلال المرأة والدين للدعاية لمشروع مجتمعي رجعي يمد جذوره في عصور الإستبداد والقهر العثماني، ولترويج أفكار وأراء وعقائد ظلامية متحجرة تروج لها البلدان النفطية ووعاظ الفتنة ودعاة الإرهاب العالمي المتستر بالدين وأتباع أبو الأعلى المودودي(الباكستاني) وسيد قطب....الخ.

9- الحجاب مؤسسة فصل بين المرأة والرجل

في المجالين البيتي والعمومي

لم يكن الحجاب، بالمعنى الشائع للكلمة حاليا، مجرد غطاء لجسد المرأة بل هو مؤسسة للفصل بين فضائين "فضاء خاص تلزمه المرأة وفضاء عام يتحرك فيه الرجل" وبين مجالين اجتماعيين جنسيين.

والجدير بالتأكيد أن هذه المؤسسة لم تكن موجودة دائما في المجتمعات العربية، بل ظهرت مع توسّع الغزوات التي كانت تقوم بها الدولة العربية الناشئة ومع الإنقسام الطبقي في مجتمع الجزيرة بين طبقتي الثراء والفقر. إذ كان عدد العبيد والإيماء والسبايا والحريم يشير إلى الفوارق الطبقية القائمة. وبما أن النساء، سواء كنّ زوجات أو إيماء، هنّ ملكية خاصة للرجل، فقد استعمل الحجاب كأداة حوز لتلك الملكية الخاصة. فأخذ الحجاب أهمية متزايدة في المجتمع الجديد، خاصة وأن عدد الزوجات والإماء تزايد بشكل أصبح فيه المالك في حاجة الى إقامة عازل حريميّ، وجده في الحجاب.

لقد بدأ مبدأ الفصل والتفريق بين الجنسين يتحول إلى نظام سار في المجتمع العربي خلال القرنين الأول والثاني للهجرة، حيث شرعت السلط المحلّية تشدّد في احترامه وتسعى إلى الحد من تواصل بعض العادات التحررية القديمة.

ففي مكّة، كانت الفتيات اللاتي تنشدن الزواج تخرجن سافرات للطواف بالكعبة، حتى يتمكن من يريد طلب يد إحداهن من رؤيتها. فاتجه المسؤولون إلى الحد من هذه العادة، وصولا إلى إلغائها، وأخيرا فرض على المرأة الحجاب.

وفي اليمن، فرض الإمام يحي الهادي، في القرن الثالث، على سكان العاسوم قواعد صارمة للفصل بين "المجتمع الرجالي" و"المجتمع النسائي"، فطلب أن ترتدي النّساء الحجاب ومنع البدويات من الذهاب إلى السوق مكشوفات الوجوه.

وفي مصر، في القرن التاسع قرّر سلطان مصر منح النساء من الخروج وهنّ سافرات، باستثناء العاملات في غسل الموتى.

وهكذا فرض على المرأة الحجب، إذا أرادت الخروج إلى الشارع، وتبقى متخفية وراء ستار عازل يفصل بين الجنسين طوال حياتها. وارتداء الحجاب في الشارع، هو عبارة عن امتداد لنظام الحبس في البيت وجعل الفضاء العمومي رجالي بالأساس.

والجدير بالتنويه أن الحركات الإسلامية، في القرن الواحد والعشرين، لم تخرج عن السياق العام الذي حاول فيه الفقهاء المتشددون الحد من العادات التحررية التي كانت المرأة حائزة عليها في المجتمع العربي والذي فرض به الإستعمار العثماني الحجاب على المرأة. وما نشاهده في الفضائيات وما يروج على قارعة الطريق من كتب صفراء ومنشورات ودعوات وابتهالات وإنشاد في الأسواق الأسبوعية والأكشاك ومحطات النقل البري والحديدي وما تعج به المكتبات وما يكتب من مقالات يبعث على القلق حول مستقبل مجتمعنا ومستقبل المرأة في يلادنا. فالحركة الأصولية لم تغير شيئا من مقولاتها، وقد تدخل عليها التعديلات الشكلية الضرورية كي تيسر تمريرها بين الناس، مثل تلطيف الحجاب وجعله يساير الموضة والعصر حتى لا يتحول إلى عائق أمام شغل المرأة وتعليمها، المهم أن يقبل به الناس، في إطار "حرية اللباس"، باعتباره سيفرض بحكم العادة التمييز بين الجنسين والفصل بين "المجتمع الرجالي" و"المجتمع النسائي" وسيادة الرجل على المرأة وقوامته عليها. وتبعا لتلك التغييرات في العلاقة بين المرأة والرجل تتغير مواصفات الحجب وترتقي إلى مستوى القواعد الدينية، لأن أصل الفكرة ثابت لدى الحركة الإسلامية لم يتغيّر.

ورد في مقال تحت عنوان "حجاب الأخت المسلمة" صادر بمجلة المعرفة، ما يلي:

"تبين لنا بعد تتبع الآيات القرآنية والسنة المحمدية والآثار السلفية، أن المرأة إذا خرجت من دارها وجب أن تتحقق في ملابسها من الشروط التالية:

1- استيعاب جميع البدن إلا ما استثني.

2- أن لا يكون زينة في نفسه قال رسول الله (صلعم):

" ثلاثة لا تسأل عنهم: رجل فارق جماعة وعصى إمامه ومات عاصيا، وأمة أو عبد أبق فمات، وامرأة غاب عنها زوجها قد كفاها مؤونة الدنيا فتبرجت بعده" (رواه احمد)

3- أن يكون صفيق لا يشف و لا يصف

4- أن لا يكون مبخرا مطيبا قال رسول الله (صلعم):

"أيما امرأة استعطرت فمرت على قوم ليجدوا من ريحها فهي زانية" (رواه النسائي وأبو داود)

5- أن لا يشبه لباس الرجل

6- أن لا يشبه لباس الكافرات.

ومن واجب الأخ أن يحقق هذه الشروط في لباس زوجته وكل من كان تحت ولايته".

إن حجب جسد المرأة في الفضاء العمومي هو محافظة على مبدإ القوامة للرجل على المرأة وعلى سيادته باعتباره رئيس العائلة. لذلك فهو يواصل في المجال العمومي العلاقة القائمة بين المرأة والرجل في البيت. ورغم أن النساء المحجبات خرجن للتعليم و العمل، فإن الحجاب لم يفقد صفته كحاجز فضائي يشبه المجال البيتي، باعتباره يضع حاجزا بين المرأة والرجل، ويدعمه المتشددون برفض المصافحة والخلوة بغير المحارم والإختلاط. فتنشأ هوّة تشطر المجتمع وتعوق علاقات الصداقة والزمالة والاشتراك في المواطنة. وقد تحدث راشد الغنوشي عن التفرقة بين الجنسين حيث قال:

"فمجتمع الرجال وناديهم غير مجتمع النساء و ناديهم".

10- الحجاب يافطة سياسية لمشروع استبداد.

تسعى جماعات الإسلام السياسي إلى جعل الحجاب أداة دعاية سياسية تحمله المرأة وهي مستهدفة بالتمييز والدونية التي يضعها فيها، كي يكون أقوى بلاغة في الدفاع عنه وعن المشروع المجتمعي الذي يدعو إليه. لذلك تشنّ الحركة الإسلامية العالمية، من حين لآخر، حملات منظمة حول "حق لباس الحجاب"، بما في ذلك في التعليم العمومي، ليس فقط في البلدان العربية الإسلامية بل وأيضا في الدول الأوروبية، تهدف بها ضرب المكاسب الثقافية والإجتماعية والحضارية التي تحققت في بعض البلدان العربية وزعزعة الأسس العلمانية واللائكية التي تقوم عليها دول الديمقراطيات الغربية وكسب تعاطف الناس على أساس شعارات موهومة ومخادعة.

فتحركت ماكينتها الدعائية في جميع الإتجاهات وكان للطفولة نصيبها "بميلاد فلّة" ولعبت قناة الجزيرة والقنوات الدينية دورا خطيرا في هذا الصدد. وكان هجوم "المشائخ" صريحا على بلادنا لما حققته من تقدم اجتماعي وحضاري وعلى الأخص في مجال حقوق المرأة ومنها اللباس.

تعتبر معركة الحجاب بالنسية للحركة الإسلامية ركنا أساسيا في عملها السياسي لكسب المرأة التي بها تكسب المجتمع برمته.

لقد أضفت الحركة الإسلامية على الحجاب صبغة دينية واعتبرته فرضا دينيا أضافته إلى قواعد الإسلام الخمسة، كما فعلت مع قوالب أخرى، وكما فعلت بالنسبة للباس الرجل، الزي الهندي/الباكستاني/الأفغاني، زعما أنه "زيّ إسلامي". وتؤكد الجماعات الإسلامية على إبراز مظاهر التدين كحلق الشارب وإسدال اللحية أو حلقها بطريقة معينة وعرق السوس والجلباب والحجاب، وافتعال الصلاة في الشارع، كلها إشارات تريد أن تظهر بها تفوقها وسعة انتشارها وقوتها الفعلية أو الكامنة.

والخطير في الأمر هو أن الفضائيات التي تدعم الحركات الإسلامية من خلال التغطية الإعلامية وتقديم مشاريعها للناس، تدعو إلى "إسلام منمط" يمثل أرضية خصبة لانتشار الإسلام السياسي.

لذلك فإن التواصل الذي ينشأ بين الإسلام السياسي والإسلام المنمط والإسلام الشعبي، في ظروف انعدام الحريات وتخلف الحياة السياسية وضعف النقاش الفكري والسياسي بين المشاريع المجتمعية المختلفة ومواصلة الخلط بين الدين والسياسة وبين الدين والدولة، من شأنه أن يعطل عملية الإنتقال للديمقراطية ويفتح على إمكانية انتصاب نظام حكم استبدادي باسم الدين.

11- إن السفور من صميم القضية الديمقراطية و"حرية اللباس" تعني القبول بدونية المرأة

إن شعار "حرية اللباس" الذي ساندت عن طريقه قوى ديمقراطية ويسارية حقّ فتيات ونساء في ارتداء الحجاب، باسم حقوق الإنسان والحريات الفردية، ضد إجراءات المنع التي تعرضن لها لدخول المعاهد والكليات والإدارة، وضد المضايقة التي تعرضن لها أيضا في الطريق العام.

ويطرح علينا شعار "حرية اللباس" العديد من المسائل الجوهرية:

أولها، يتمثل في أن الحرية الفردية وحقوق الإنسان مشروطة في ممارستها باحترام القيم والمبادئ القائمة عليها، أي قيم الديمقراطية ومبادئها، وأن التعدي عليها وانتهاكها ليس من الحرية وحقوق الإنسان في شيء. فهل من المنطقي والمعقول أن نساند شخصا في "حقه" أو "حريته" في الإنتحار أو في أن يكون عبدا لغيره أو في أن يتجول في المدينة عاريا؟ أليست جميعها "حريات" فردية ومثلها لا يحصى ولا يعد؟ إن حقوق الإنسان والحريات هي في الأصل مؤسسة على المساواة واحترام الذات والنظر للآخر والتعامل معه كإنسان وليس كشيء. وأن الحجاب يشير إلى التمييز بين المرأة والرجل ودونيتها عليه والنظر إليها من زاوية الغريزة الجنسية واعتبار جسمها عورة...الخ، وليس هذا فقط بل إن الأصل في الحجب هو تبعية المرأة للرجل وقوامته وسيادته عليها واستعباده لها. لذلك فإن معركة السفور سواء كما دارت في عهد الطاهر الحداد وفي العهد الأول للإستقلال أو كما تدور اليوم هي من صميم القضية الديمقراطية في بلادنا، وهي مازالت مطروحة برمتها في السياسة والمجتمع. لأنه من البديهي أن كل تقدّم يحصل في المجتمع يجري حسب مدى تقدم المرأة نحو الحرية، وإن تدهور الحضارات والأمم والنظم الإجتماعية يعود في وجه أساسي منه إلى انعدام الحرية لدى المرأة. وليس عسيرا علينا أن نلاحظ أن خير الأمم بالأمس واليوم هي تلك التي تتمتع فيها المرأة بقدر أكبر من الحرية. والحجاب تمييز وحبس وتلجيم للحرية وإن مساندة ارتدائه من قبل المرأة، تحت شعار "حرية اللباس"، وباسم حقوق الإنسان والحريات الفردية، تعني في مضمونها "حرية استعبادها" وتقديم العون للقوى الرجعية كي تمنع المرأة من حوز حريتها كاملة ومساواتها التامة مع الرجل، وتتمكن بالتالي من شد المجتمع إلى الوراء والسير به إلى الإنحطاط.

لقد استلهم أصدقاؤنا ورفاقنا في رفع شعار "حرية اللباس" من الشعارات المتداولة في البلدان الديمقراطية، مثل فرنسا، ومن تلك التي يتم تداولها في الشبكة الدولية، فأخطأوا، لأن الأوضاع تختلف بين البلدان التي حسمت فيها القضية الديمقراطية وبين البلدان التي مازلت فيها مطروحة للحلّ، ففي الأولى:

- تحمي القوانين الحريات وحقوق الإنسان وتضمنها. فالقانون يحجر الدعاية للفاشية والميز العنصري، كما يجرم التعدي على الحريات وحقوق الإنسان.

- و تتوفر للمجتمع المدني والأحزاب السياسية إمكانيات عريضة وفضاءات متعددة للدفاع عن قيم ومبادئ الديمقراطية أمام المواطن والرأي العام.

- ويلعب الإعلام الحرّ فعلا دور سلطة رابعة سواء لمعارضة موقف من جهة السلطة أو من جهة المجتمع المدني والسياسي أو من جهة المواطن بصورة عامة.

- وتقنن الدولة كل خطوة جديدة يقطعها المجتمع نحو ديمقراطية أوسع وأشمل باستحداث أو تنقيح قوانين من شأنها أن ترتقي بمستوى ممارسة الحريات والحقوق.

بينما في الثانية أين تكون فيها مكانة قيم ومبادئ الديمقراطية هشّة، وأين مازالت مجالات ممارسة الحريات واحترام حقوق الإنسان ضيّقة ودور المجتمع المدني والسياسي محدود والإعلام له وظيفة دعائية. ومما يزيد الطين بلّة، في بعض البلدان ومنها بلادنا، مخاطر الدعوة للعودة إلى عصر الظلمات التي تدق على الأبواب وفي كل بيت وتشدّ مجتمعنا إلى الوراء وتعيد صياغة الذهنية العامة لشعبنا في اتجاه رجعي وظلامي يصبح فيه مستعدا للتخلي عن مكاسبه الحضارية والثقافية والإجتماعية، ليصبح فيه استعباد المرأة ودونيتها وتبعيتها للرجل مسألة طبيعية لا تثير الغضب والإحتجاج والثورة. فهل يصح في هذه الحالة الدعوة إلى "حرّية اللباس"؟ لا نظن ذلك !

وثانيها، يتمثل في أن منع مظاهر التدين في مؤسسات التعليم والإدارة مشروع من زاوية الدفاع عن لائكية الدولة وعلمانيتها، وهو إجراء من الزاوية الديمقراطية صميم. ولا نظن، في هذا الصدد، أن المنشور 108 قد تعدى على الحريات الفردية وحقوق الإنسان لمّا منع مظاهر التّديّن في المؤسسة التعليمية. ومزيّته أنه وقف ضد محاولة جرّ المؤسسة التعليمية العمومية إلى مجال العقائد ودافع عن طابعها العلماني. كان ولا بدّ أن يوجد قانون يمنع مظاهر التدين في مؤسسات الدولة، دفاعا عن علمانيتها وعن حيادها تجاه المعتقد. وهي إجراءات تحمي المواطن من كل ميز على أساس العقيدة. بينما الذين يطالبون بحق لباس الحجاب وإلغاء المنشور108 والذين يساندونهم تحت شعار "حرية اللباس"، هم يعملون معا من أجل إزاحة الجوانب العلمانية في الدولة وإضفاء الصبغة الدينية عليها. ولا نعتقد أن عاقلا ديمقراطيا أو يساريا يقبل مثل هذه المقايضة ويسهم في إضفاء طابع ديني على الدولة، باسم "حرية الإستعباد".

نحن نعتقد أنه من واجبنا كديمقراطيين ويساريين أن ندافع عن علمانية الدولة ولائكيتها باعتباره أساسا لا غنى عنه لقيام الديمقراطية. لذلك نحن ضد شعار "حرية اللباس" ومع منع مظاهر التّدين في المؤسسة التعليمية العمومية والإدارة. ومن واجب الدولة الدفاع عن طابعها العلماني ضد محاولات المساس به، لكننا ضد أسلوبها الزجري الذي بانتقاله إلى الشارع، حين يعمد رجال الأمن إلى نزع الأخمرة والحجب، يستهدف المجتمع ككل، بتعميم الخشية من "الحاكم"، خاصة وقد أضحت غالبية المخمّرات ليست من جمهور الحركة الإسلامية، بل من الواقعات تحت تأثير دعاة القنوات النفطية وغيرها من المغالطات الدعائية. وهو وضع يشمل النساء والرجال سوية. وهو مجال تدخل الإقناع والتوضيح والشّرح، أي مجال فعل المجتمع المدني والسياسي والإعلام في الفضاءات التي من المفروض أن توفرها الدولة حتى تسمح للمواطن أن يتصرف بمسؤولية في مجتمعه وتشركه في كل ما يعني حاضره ومستقبله وحاضر مجتمعه ومستقبله.

لكن إذا ضيقت الدولة في مجال حرية المجتمع المدني والسياسي والإعلام وأزاحت المواطن من دائرة الفعل الإيجابي والمشاركة في إدارة الشأن العام، واحتكرت لنفسها جميع الأدوار طغى على علاقتها بالمجتمع التدخل من فوق والحلول الأمنية والإدارية. وحينها لم تعد تفرق في كيفية التصرف حيال المجال العمومي الذي يمثلها وبين الفضاء المجتمعي الذي يمثل عموم المواطنين، حيث يكون الأول مجال اختصاصها في حين أن الثاني هو مجال فعل المواطن بالأساس وتكتفي الدولة بحمله على احترام القانون. وعلى النحو يجدر القول أنها ابتلعت المجتمع وأخذت طبيعة دكتاتورية جليّة.

إن "معركة السفور الجديدة" على حد تعبير الدكتورة رجاء بن سلامة مقرونة فعلا "بالمعركة المؤجلة دائما " في مجتمعاتنا العربية الإسلامية وهي "معركة الحرية". وهو رأي كانت عبرت عنه إحدى رائدات النضال في سبيل تحرر المرأة السيدة نظيرة زين الدين، فقد أكدت في مناسبات عديدة بأن السفور حق طبيعي للمرأة وأن حرمانها من هذا " الحق الأول في الحياة" بتحجيب وجهها أو "تنقيبه" ظلم يجدر بالأمة العربية أن تحل محله العدل. وتضيف أن أمّة لا تنال نصيبها الوافر من الرقي إلا بإزالة كل عائق دون نيل المرأة مثل ذلك النصيب... والحجاب...بلا ريب، يعرقل صعودها ويمنعها من أن تبلغ الذروة العليا لأن الحجاب قيد ولا يستوي المقيد والطليق".

إن سفور المرأة وتحررها من الحجاب، وثيق الصلة بالمسألة الديمقراطية في بلادنا وبالتالي بتحرر المجتمع ككل. وأن ارتقاءها إلى مستوى المواطنة والمساواة الحقوقية مع الرجل وتمتعها بحقوقها السياسية والإجتماعية يفترض ارتقاء حضاريا وسياسيا للمجتمع بأسره وتقدما اقتصاديا يسهم فيه كافة أفراده وبالتحديد نصفه المعطل بالحجب، أي المرأة.

ونحن نعتقد أن الذين يرفعون اليوم شعار "حرية اللباس"، من الديمقراطيين واليساريين، لم يستوحوه فقط من البلدان الديمقراطية، بل يرفعونه لتوسيع دائرة الإحتجاج ضد السلطة ومجالاته والتنديد بالقمع المسلط على الأشخاص مهما كانت معتقداتهم ومواقفهم.

لكن الأكيد هو أن قبولهم بهذا الشعار يعود إلى ميلهم للتّحالف مع الحركة الإسلامية أو إلى البحث عن "وحدة عمل" معها. ونود لفت انتباههم إلى أن القبول بهذا الإلتقاء، ولو ظرفيا، مع حركة صاحبة مشروع استبدادي يؤدي بهم إلى تنازلات مبدئية في مسائل جوهرية من قضية الديمقراطية، مثل القبول بشعار"حرية اللباس" الذي يمس من قضية المرأة، في حالة ارتداء الحجاب، ومن علمانية التعليم والدولة، ووصل الأمر إلى حد تبرئة الحركة الإسلامية من مواقفها الواضح حول الخمار بدعوى أن ما ظهر هي مواقف لبعض القادة لا غير !!!!. وهي تراجعات جدّية تضرّ في النهاية بقضية الديمقراطية وبالنضال الديمقراطي عموما.

12- الدعوة "للعودة إلى اللباس التقليدي"

هي تعويض حجاب بحجاب

تعالت في الآونة الأخيرة أصوات من داخل السلطة تدعو للعودة إلى لباسنا التقليدي لمحاصرة "اللباس الطائفي"، وكأنها تدعو إلى تعويض حجاب بحجاب. ونسوق بعض الملاحظات بشأن هذا الشعار.

ونبدأ بملاحظة أن "الزي الإسلامي" هو عنوان سياسي لحركة سياسية صاحبة مشروع مجتمعي وصاحبة مشروع سلطة ونظام حكم ودولة. وهو يشبه في رمزيته لباس "الصفوف الفاشية" التي بعثها ميسوليني في إيطاليا. في حين أن الزّي الطائفي يشير إلى مجموعة من الناس محدّدة يربط بينها العرق أو الثقافة أو المعتقد وله صلة بتاريخها الطويل وبعاداتها وتقاليدها، وهو لا يعدو أن يكون في النهاية سوى عادة لباسية لا غير.

وردت عبارة "اللباس الأجنبي" تماما كما ورد استعمال "الزّي الطائفي" بكثير من الإرتجال وانعدام الدّقة، حيث تمّت محاولة إثارة النّعرات الوطنية والتمسّك بالأصول كي يسهل رمي أصحاب "الزّي الإسلامي" بالإنبتات واللآوطنية، وهي مواجهة وحجج ضعيفة.

نحن لسنا في باب مقابلة عادة لباسية بأخرى، بل إن الذي يفصل بيننا هو المشروع المجتمعي ووضع المرأة فيه. وفي باب اللباس التقليدي كان بورقيبة حسم أمره كما حسم أمر صيغ الحجب الفضّة أو المقنعة بحركة سجلها التاريخ لما أزاح عن المرأة السفساري ونزع عنها غطاء شعرها ودعاها إلى السفور دون مراوغة. ومن غير المعقول أن نعارض نظرة اليوم رجعية للمرأة بأخرى لا تقل عنها رجعية، فالحجب عن طريق "اللباس الشرعي" تماما كما الحجب عن طريق اللباس التقليدي يضعان المرأة في موقع دوني بالنسبة للرجل ويتعاملان معها كإنسان ناقص. وكلاهما شرّ عليها لا بدّ من رده والتحرر من مكبلاته. لكن في صيغ الحجب الجديدة أنها ارتقت إلى مستوى القواعد الدينية وأصبحت صاحبة مشروع استبدادي متستر بالدين.

لذلك فإن الهروب في اتجاه "اللباس التقليدي" يعبر في الأصل عن ارتباك أمام الظاهرة وعدم الإستعداد لمواجهتها من الزاوية الديمقراطية ومن جهة الإنتصار إلى قضية المرأة كليا، لأن الثقافة السائدة، بهذا الصدد، شرقية في أساسها وتحمل في جوهرها النظرة الشرقية للمرأة.

وزيادة على ذلك فإن موجة "الزّي الإسلامي" غمرت شرائح واسعة من مجتمعنا، ولا نظن أن عائلات رجال الدولة وموظفيها في مأمن من هذه الظاهرة، دون ذكر الذين يعلقون الّسجاد في مكاتبهم بالإدارة، وهو يشكل ضغطا جديّا على أصحاب القرار والسلطة، وحتى على مثقفيها.

إنه في اعتقادنا، بقدر ما يشتد الضغط تصبح الحاجة أشد للحل الديمقراطي والتقدمي الذي يحصن المجتمع عن طريق الوعي ويساعده على تحرير طاقاته وحمايتها من الإهتراء والإستنزاف. ولا يتم ذلك إلا عن طريق تحقيق أوسع ما يمكن من الحرية والمساواة والعدل وليس بالعودة إلى الوراء بل بالتطلع للمستقبل وإلى القوى الحيّة في المجتمع.

13- الحجاب لا يمثل العفّة وحسن الأخلاق

نأتي الآن إلى العفة والأخلاق، وتكريما للطاهر الحداد نقدّم للقراء مقتطفات مما كتبه بشأن السفور:

"...نحن إذا رجعنا لأهم مثالب السفور عند أعدائه رأينا أنهم يعتبرونه مصدرا هائلا لانتشار الفجور فاحه علينا اختلاطنا بالأروبيين. بيد أن الفجور ليس أثرا يتولد عن الوجوه السافرة. وإنما هو أثر من آثار العوامل النفسية التي ليس من المعقول ولا من الحق أن نتجنب الحديث عنها عند كلامنا على السفور. ف‘ذا كنا نريد حقيقة طهارة المرأة ونطلبها طلبا صادقا منتجا فلنقاوم فجور الرجل فنتجنب حوادث الغيرة التي يتكسر بها قلب المرأة بتجنب الزنى واللواط وتعدد الزوجات، والزواج بالإكراه، وإطلاق يد الرجل بالطلاق دون حد أو رقابة عليه......

للفجور سبب آخر غير هذه الأسباب أعم وأخطر منها: هو الفقر الذي أخذ يحيط بنا من كل جانب وخصوصا آباء العائلات منا. تلك العائلات التي يقف عددها عند المرأة وأبنائها بل يشمل في غالب الأحوال عندنا الأبوين أو الأب المتزوج في كبره الوالد فيه لأبناء آخرين وهو عاجز عن تدبير معاشهم. ويشمل أيضا كل قريب للرجل وحتى أقرباء المرأة أحيانا من عن وعمة وخال وخالة وأخ وأخت وأبنائهم وبناتهم. فكل عائلة من عائلاتنا تنال من هذا العدد ما قدر لها أن تتحمل به بفرض التقاليد الموروثة التي لم يقع علاجها إلى اليوم بوجه من الوجوه...... فمثل هذا إذا ضممناه لعموم الأحوال المحيطة بنا أدركنا العوامل الحقيقية لانتشار الفجور الذي نخشى انبعاثه من السفور..........

لا فائدة أن نعلن عن حبنا للطهارة في تمسكنا برأي الحجاب. فالمقام مقام ألم وصدق في القول والعمل لا مقام إعلان عن أنفسنا عند العامة والبسطاء منا فهم أحوج إلى الإرشاد منهم إلى التضليل والإغراء. وإني شخصيا غير آمل في حل مشكلتنا هذه بالإنتصار لرأي الحجاب الذي تتغلب اليوم عليه عوامل أقوى من الإنتصار له مهما كان مبلغ هذا الإنتصار والطرائق التي تستعمل لنجاحه. وما كان أحوجنا إلى الإتحاد في تعليم وتربية المرأة للنهوض بها بدلا من هذا الجدال العقيم الذي نمأ به أيامنا العاطلة"(21).

واعجبي، من دعاة لتعفف المرأة يقدمون الفتاوي يوميا ويعددون أنواع "الزواج" "مدفوع الأجر مسبقا" لأسبوع أو أسبوعين ولشهر أو أكثر. أليست الدعارة العامة المفروضة على المرأة باسم الشرع؟ أين هي الأخلاق إذن؟ هل هي تتمثل في: "وإذا عصيتم فاستتروا" !؟

14- مصلحون ناهضوا الحجاب

على أساس التأويل الديني

ناهض الحجاب، على أساس التأويل الديني، عدد من الداعين إلى إصلاح ديني شامل بما يجعل الإسلام يتماشى ومتطلبات التطور التاريخي والإجتماعي. فكان من روادهم قاسم أمين الذي تبنى قضية "تحرير المرأة" وأصبح من الداعين لها، وأصدر كتابا تحت عنوان "تحرير المرأة" سنة 1899، أكد فيه على العودة إلى الشريعة في مسألة الحجاب باعتبار أن "القرآن أرحم من المجتمع الإسلامي"، في هذا الشأن، وإلى نزع الحجاب وتعليم المرأة وإدخالها معترك الحياة. كما نادى بتحريم تعدد الزوجات وتقييد حق الطلاق بالنسبة للرجل.

وسانده في ذلك محمد عبده وأفتى بتمكين المرأة من حقها في المطالبة بالطلاق نتيجة ضرر. و نسج على منواله عشرات المناضلين من أجل إصلاح الدين وإصلاح المجتمع نذكر من بينهم نبوية موسى ونظيرة زين الدين النبي التي أصدرت كتابين تدافع فيهما عن حقوق المرأة "السفور والحجاب " و"الفتاة والشيوخ" وأصدر الطاهر الحداد، سنة 1930، كتابا تحت عنوان "امرأتنا في الشريعة والمجتمع" يدافع فيه عن المساواة بين المرأة والرجل، فقد أكد أن:

"المسلمون الذين جاؤوا بعد محمد قد عطلوا مسيرة هذه المساواة بل عملوا عن طريق الحكام الفقهاء على تجميد ما جاءت به الشريعة من حقوق".

وبنفس الروح الإصلاحية ناهض المستشار محمد سعيد العشماوي في كتابه "حقيقة الحجاب وحجية الحديث" كل أنواع حجب المرأة وكل مظاهر دونيتها مقارنة بالرجل.

ويمكن اعتبار"الإخوان الجمهوريين" أفضل مثل للتطور التاريخي الذي شهدته حركة إصلاح الدين والمجتمع، من داخل المنظومة الدينية. وقد قادهم اجتهادهم، باعتماد مقاصد الدين واعتبار الإسلام "وليّا للمستضعفين"، فهو للمرأة التي هي "أكبر من استضعف في الأرض"، إلى حد المطالبة بالمساواة التّامة بين الجنسين، فهاجموا مجلة الأحوال الشخصية السودانية:

" لأنها تعتبر الرجل هو قيّم على المرأة وليس القانون ولأنها تفرّق بين النساء والرجال في بقية الحقوق الأخرى...فالمرأة نصف الرجل في الشهادة و نصفه في الميراث وربعه في الزواج وهو يملك الحق في تطليقها وفي تعليقها، فأين الدستورية في هذه القوانين ؟؟"(22).

وكانوا أصدروا سنة 1975 بمناسبة السنة العالمية المكرسة للمرأة 16 كرّاسا يوضحون فيها مفاهيمهم الثورية الجديدة للإسلام والمجتمع و الحرية والمساواة.

15- أما آن للديمقراطيين واليساريين أن يقفوا موقف الطاهر الحداد من قضية المرأة؟!

لا بد من أن نذكر أن الطاهر الحداد دافع عن قضية المرأة من داخل المنظومة الدينية بروح الإصلاح الشامل. ورغم محدودية هذا المنهج فقد كان أكثر المصلحين العرب راديكالية بشأن كل المسائل المتعلقة بقضية المرأة(الزواج وتعدد الزوجات والطلاق والإرث والحجاب والتعليم والشغل والحقوق السياسي...).

فالزواج بالنسبة إليه مجموعة من العواطف والواجبات وهو يقوم أساسا على الحب. وعلى هذا الأساس لا يمكن أن يتم إلا على أساس الإختيار الحر بين الطرفين. فاستنكر تدخل العائلة في الحياة الخاصة للمرأة واختيار "الزوج المناسب لها" وتزويج الفتيات في سن مبكرة وفي بعض الأحيان للشيوخ.

وكان الحداد أول من دعا إلى ضرورة استعمال وسائل منع الحمل وبعث رياض الأطفال وعارض سلطة الرجل على المرأة داخل العائلة، باعتبار أن لهما نفس المسؤولية تجاهها.

وعارض بصورة قطعية تعدد الزوجات باعتباره يتعارص مع الزواج المبني على أساس الحب، بينما قبل قاسم أمين تعدد الزوجات في حالات خاصة.

وفيما يتعلق بالطلاق فقد دافع عنه الحداد باعتباره يحرر الطرفان من حياة تنتفي فيها إحدى المقومات الأساسية: الحب والإحترام المتبادلين. واقترح إنشاء محاكم خاصة تنظر في القضايا الزوجية لحماية العائلة من التفكك باعتبارها الخلية التي يقوم عليها المجتمع.

واعتبر أن معالجة قضية المرأة من الأساس تكمن في تعليمها وتنمية ذوقها ووعيها الإجتماعي، كي يتسنى لها تنمية جيل واع ومتحضر وقادر على التخلي هن العادات البالية والرفع من شأن المرأة.

وفيما يتعلق بالإرث عارض الحداد بصورة جلية ما جاء في أحكام الشريعة ونادى بضرورة التساوي بين الذكر والأنثى معتبرا أن ما تضمنته من أحكام جاء في وضع اقتصادي واجتماعي يختلف اختلافا كليا مع واقعنا الراهن ونادى بالإجتهاد المدرك للمقاصد والقادر على تجاوز النص الصريع والحكم البات إن اقتضى الأمر.

ويرى أن دعوته إلى المساواة في الإرث ليست سوى وسيلة ارتقاء بوضع المرأة واعتبارها إنسانا كاملا.

واعتبر أن عمل المرأة هو وسيلة لتحررها ولتطوير المجتمع وتقدمه ولدعم روابط التعاون داخل العائلة وبين الزوجين. وعلى عكس قاسم أمين فلم يكن يرى مانعا في أن تكون المرأة قاضية معتبرا أن ما جاء في القرآن بخصوص الشهادة لم يعد متماشيا مع الواقع.

وكان الحداد وقف بشجاعة وجرأة ضد الحجاب إذ اعتبره مثالا حيا لانعدام المساواة بين الجنسين، في حين قبل قاسم أمين بمفهوم "الخمار الشرعي"، أي الذي "سنته الشريعة".

فهل لرفاقنا وأصدقائنا أن يأخذوا من الحداد هذا التماسك في الدفاع عن قضية المرأة بأن لا يقبلوا بشأنها أي تنازل. ولنكن جميعا مع الحداد داعين للسفور ومناهضين للحجاب !!!

تونس في 5 ديسمبر2006

الهوامش

(1) الطاهر الحداد، إمرأتنا في الشريعة والمجتمع، دار صامد للنشر والتوزيع، مارس 1998، ص ص184-185-187.

طبع الكتاب أول مرة سنة 1930 فأثار جدلا وزوبعة كبيرين قم أعيد طبعه مرة ثانية سنة 1972 ومنذ ذلك التاريخ تولت الدار التونسية للنشر إعادة طبعه مرات عديدة.

(2)- د. ثورت عكاشة، الفن العراقي القديم، المؤسسة العربية للدراسات والنشر- بيروت، ص22.

(3)- سفر التكوين، الإصحاح 24، 64-65 (أوردته الدكتورة السوائحي، في نقال على الواب تحت عنوان: "معركة وهمية في الإسلام: اسمها الحجاب أو السفور").

(4)- نشيد الإنشاد، الإصحاح 1: 7(نفس المصدر).

(5)- سفر إشعيا، الإصحاح3: 16- 17-18-19(نفس المصدر).

(6)- الإصحاح 11: 6.

(7) – (8)- (9) - الفلسوف المسيحي والمرأة.

(10)- سورة الأحزاب 53.

(11)- سورة النور31.

(12)- سورة الأحزاب59.

(13)- سورة البقرة.

(14)- شكري لطيف، الإسلاميون مشروع اضطهاد المرأة.

(15)- راشد الغنوشي، موقع نهضة.نت، بتاريخ 11سبتمبر 2003، ورسالة عيد الفطر بتاريخ 3 نوفمبر 2005.

(16)- كارل ماركس، مخطوطات .1844

(17)- نفس المصدر.

(18)- فريديرك أنجلس، أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة.

(19)- كارل ماركس، مخطوطات1844.

(20)- الإصحاح 11: 4-14 (أورده المستشار محمد سعيد العشماوي في كتابه حقيقة الحجاب....).

(21)- الطاهر الحداد، إمرأتنا في الشريعة والمجتمع، ص ص190-194.

(22)- الإخوان الجمهوريون، كراس حول حقوق المرأة في الدين والشريعة والفقه.

المراجع المعتمدة

1- الطاهر الحداد، إمرأتنا في لشريعة والمجتمع

2- فاطمة المرنيسي، الحريم السياسي، النبي والنساء

3- ألكسندرا كولونتاي، محاضرات حول تحرر المرأة

4- علي القيّم، المرأة في حضارات بلاد الشام القديمة

5- كارل ماركس، مخطوطات 1844 والعائلة المقدسة والجريدة الرينانية

6- فريديريك أنجلس، أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة

7- المستشار محمد سعيد العشماوي، حقيقة الحجاب وحجية الحديث

8- شكري لطيف، الإسلاميون والمرأة مشروع الإضطهاد

9- د. رجاء بن سلامة، "ضد الهوس الديني: تحجيب النساء" و"معركة السفور الجديدة"

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire