samedi 11 juillet 2009

معا من اجل الجمهورية الديمقراطية

تحيّة بالمناسبة
تحتفل تونس يوم 25 جويلية 2007 بالذكرى الخمسين للإعلان عن الجمهورية، ويتوجه الحزب الإشتراكي اليساري، بتهنئة الشعب التونسي بهذه المناسبة، باعتبارها مثلت خطوة تاريخية قطعها على درب تحرره وانعتاقه. كما لا يفوته أن يتوجه بتحية تقدير للذين أقدموا على اتخاذ قرار الإعلان عن الجمهورية وأن ينحني إجلالا وإكبارا للشهداء الذين وهبوا حياتهم من أجل استقلال هذا الوطن ولرجال الفكر والسياسة والمناضلين الذين شاركوا في الحركة الوطنية. ويتوجه الحزب الإشتراكي اليساري أيضا بتحيّة إكبار وتقدير للأجيال المختلفة من اليسار والحركة الديمقراطية التي ظلت طوال الخمسة عقود المنصرمة مدافعة، بهذا القدر أو ذاك، عن قيم ومبادئ النظام الجمهوري وكابدت من الحيف السياسي وعانت من القمع الشيء الكثير.
ويعتقد الحزب الإشتراكي اليساري أنه من واجب الجمهوريين، في مثل هذه المناسبة، أن يضعوا الجمهورية، التي تمّ الإعلان عنها في 25 جويلية 1957، في ميزان التاريخ، وأن يراقبوا تطورها والآفاق التي يمكن أن تفتح عليها.

للإعلان عن الجمهورية
جذور في الحركة الوطنية
وأبعاد إصلاحية
رغم أن الحركة الوطنية لم يكن لها تصور واضح عن النظام البديل للدولة البايوية- الإستعمارية، ورغم أنها لم تطرح على نفسها إنجاز المهمة الديمقراطية، شأنها شأن سائر الحركات التحررية في العالم، فإن الشعب التونسي قد خاض نضالات عديدة من أجل تحرره السياسي والإجتماعي. فقد نظّم العمال أولى إضراباتهم وكوّنوا أولى نقاباتهم، منذ مطلع القرن الماضي، توّجوها بإنشاء حركة نقابية وطنية، في أواسط العشرينات، بزعامة محمد علي الحامي. وقد تطورت هذه الحركة وتأصلت في مواجهة القمع الإستعماري وفي الدفاع عن مصالح العمال إلى أن أصبحت القلب النابض للحركة الوطنية، وعلى الأخص بعد ميلاد "الإتحاد العام التونسي للشغل" بقيادة الزعيم النقابي فرحات حشاد.
كما ناضلت النخب التونسية، في ظل الإستعمار، من أجل حرية الرأي والصحافة. فقد بعثت صحفا عديدة، اجتماعية وثقافية وهزلية، وأخرى سياسية، إصلاحية ووطنية واشتراكية وشيوعية...الخ. وقد تعرضت للمحاكمة والمنع، مما اضطرها إلى الإحتجاب، في أغلب الحالات.
وكانت قضية حرية المرأة حاضرة في النضال الإجتماعي، من خلال تكوين جمعيات نسائية تونسية، منها المستقلة ومنها القريبة من الحزب الحر الدستوري أو من الحزب الشيوعي التونسي، ومن خلال النضال الفكري والعقائدي الذي تزعمه الطاهر الحداد، حول معركة السفور وحقوق المرأة.
وخرج الشعب التونسي منذ 9 أفريل 1938 إلى الشارع مطالبا بـ"برلمان تونسي"، زيادة على مطالبة العديد من القوى السياسية الوطنية بحق التونسيين في التمثيل البلدي.
وعلى إثر الإعلان عن الإستقلال وتولي الحزب الحرّ الدستوري الحكم أقدم، بقيادة الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة، على جملة من الإصلاحات التي كان لها أثرها البالغ على المجتمع التونسي وحددت ملامح تطوره.
فقد دعا إلى انعقاد المجلس التأسيسي لمناقشة مشروع دستور للبلاد وأصدر مجلة الأحوال الشخصية في 13 أوت 1956وأعلن في 25 جويلية 1957 عن قيام الجمهورية بدلا عن البايوية، وألغى نظام الحبس وتصدى لظاهرة الزوايا، ووحد نظام التعليم وجعله عصريا وألغى التعليم الزيتوني، ووحد القضاء وجعله هو الآخر عصريا وألغى القضاء الشّرعي، وجعل من الأسرة الضيقة الأساس الذي يقوم عليه المجتمع التونسي بدلا من العشيرة والقبيلة....الخ.
وهي إصلاحات، منها ما كان مطمحا من مطامح الشعب التونسي ومنها ما كان حلم نخبه. فقد أحدثت، بعمق نفوذها نقلات نوعية في المجتمع التونسي، باعتبارها هزّت بناءه وأعادت هيكلته طبقا للأهداف التي أهّلته إلى قطع خطوة جدّية على طريق الإرتقاء الحضاري.


الإعلان عن قيام الجمهورية مثّل نقلة تاريخية، لكن... !!
يعدّ المرور بالدولة التونسية من النمط الإقطاعي- الإستعماري إلى الجمهورية، نقلة سياسية نوعية حققتها شعوب أخرى عن طريق الثورة السياسية والإجتماعية.
وبما أن هذا التّحول حدث وكأنه تتمّة للإستقلال بإزاحة الباي، الذي عرف بتعاونه مع الإستعمار، ومعه تمّ إلغاء البايوية، وبما أنه لم يكن نتيجة حركة جمهورية واسعة أو نقاشات معمّقة داخل الحركة الوطنية مكنتها من أن تأخذ على عاتقها إنجاز المهمة الديمقراطية تماما كما تحملت المهمة الوطنية، وبما أن هذا التحول كان نتيجة فكرة رائجة لدى النخب، تأثرا بالثقافة الفرنسية، وبفعل قيادة سياسية متبصرة للرئيس الراحل الحبيب بورقيبة، فقد كان من الطبيعي والمنطقي أن تحمل الجمهورية في ذاتها، وهي تتحوّل إلى أمر واقع، مواطن ضعف كبيرة تعرقل قوة فعلها التاريخية في المجتمع وتحدّ من نفوذها وتأثيرها في الحياة السياسية.
واحتكاما لقيم ومبادئ وآليات النظام الجمهوري فإننا نعتقد أن تعطّل التحول الديمقراطي للجمهورية يعود لسببين رئيسيين لهما صلة مباشرة بظروف النشأة وبالمفهوم "الكمالي" و"البونابارتي" للسلطة، الذي كان يتبناه الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة، والذي يتعارض مع المفهوم الديمقراطي للجمهورية. وهذان السببان هما:

أولا: عدم إخراج الدين من دائرة السياسة بشكل حاسم
لقد كان توجه السلطة الجديدة لما بعد الإستقلال، هو التضييق في مجالات تدخل الدين في الشأن العام عن طريق إلغاء الحبس والمحاكم الشّرعية وإلغاء التعليم الزيتوني وإلغاء دور قضاة المذاهب والإفتاء والأئمة في علاقة بالسياسة وبالسلطة السياسية، وأعادت صياغة علاقته بالدولة، في أفق الإعتماد عليه لأغراض تعبوية حينا ومجاراة العقائد العامّية أحيانا أخرى واستمالة الشقّ المعتدل من رجال الدين ومجانبة الضغوطات التي كانت تمارسها السعودية ومصر على بلادنا، من جهة ثالثة.
ويعتبر هذا التوجه مكسبا من المكاسب الجوهرية التي تحققت في بلادنا دون غيرها من البلدان العربية. وقد كان بإمكانه أن يكون مرتكزا لتطوير بناء الجمهورية على أسس علمانية صريحة وواضحة. كما كان بالإمكان إخراج الدين، باعتباره شأنا خاصا للإنسان الفرد في علاقة بمعتقده، بشكل حاسم ونهائي، من دائرة السياسة التي هي شأن عام مشترك بين الناس. لكنه ترك الباب مفتوحا، على مصراعيه، أمام إمكانيات توظيف الدين في السياسة من جهة السلطة أو المعارضة. ووفّر المبرر "المنطقي" لظهور معارضة سياسية باسم الدين، ولإمكانية الخلط، من جديد، بين الدين والسياسة. وسمح لضغوطات تيارات الردة، بقطع النظر عن الشكل الذي تظهر فيه، أن تتعاظم وتتكثّف بشكل أجبرت به التوجه العلماني لدولة الإستقلال أن يضمر أكثر، مما جعله عرضة للمراجعة، كلما تعقدت الأوضاع السياسية.

والثاني: أن الجمهورية لم تتقمص شكلها الديمقراطي الصميم
ولتوضيح هذه المسألة، لا بدّ من البدء بالتفريق بين أنماط الدولة المتعارف عليها تاريخيا وهي أربعة على العموم: الدولة العبودية والدولة الإقطاعية والدولة الرأسمالية والدولة الإشتراكية. وفي إطار كل نمط تاريخي تظهر أشكال متباينة للدولة. ويتحدد الشكل الذي تتجلى فيه الدولة عن طريق بنيتها ومجموع أجهزتها ومؤسساتها والعلاقة القائمة عليها والمتبادلة فيما بينها، وعن طريق شكل الحكم فيه ونظامها السياسي، وهي العناصر التي سوف نعود لها بالتقييم للوقوف على المواطن التي ينبغي التوجه إليها بالإصلاح للمساهمة في التحول الديمقراطي للجمهورية:

1- جهاز الدولة وبنيتها
ونعني بجهاز الدولة، مجموع الأجهزة والمؤسسات التي أنشئت للقيام بوظائف الدولة، وهي الرئاسة والحكومة والبرلمان والإدارة والأمن والقضاء والجيش والإعلام....الخ. وقد تأسست دولة الإستقلال باعتبارها دولة حديثة وفي قطيعة مع الدولة البايوية التي كانت في جوهرها دولة إقطاعية، يحكم فيها الباي باسم الله وباسم العائلة الحسينية.
أما بنيتها، أي كيانها الإقليمي السياسي ووضعية أجزائها ونظام علاقة الأجهزة المركزية بالأجهزة الجهوية والمحلية، فقد خضعت لآليات الدولة الموحدة، حيث تسري سلطاتها بالكامل على كافة أراضيها، فيما تخضع السلطات المحلية للسلطة المركزية. وهو بناء يتناسق مع الدولة الرأسمالية العصرية، وهو خطوة تقدمية، منظور إليه من زاوية التطور التاريخي.

2- شكل الحكم
ونعني به الكيفية التي تمّ بها تنظيم السلطة العليا للدولة وأجهزتها، أي رئاسة الدولة والحكومة والبرلمان والسلط الثلاثة: التشريعية والقضائية والتنفيذية، والكيفية التي تمّت على أساسها صياغة العلاقة بين الحاكم والمحكوم.
وبما أن الأصل في النظام الجمهوري هو انتخاب أجهزة السلطة العليا وجعل الجهاز التمثيلي صاحب القرار في كل ما يهم الشؤون العامة، فإن النظام الرئاسي، إذا لم يكن معدلا بالسلطتين التشريعية والقضائية، وإذا لم يوجد توازن بين الرئاسة والحكومة، سرعان ما يتحول إلى حكم فردي. وهو ما وقع بالفعل للجمهورية في تونس، حيث تحولت الرئاسة إلى المركز الفعلي للسلطة الذي يتمثل فيه النظام الجمهوري. وقد كان الرئيس بورقيبة شغل منصب رئيس الدولة ورئيس الحكومة، باسم الدستور، فمركز بين يديه كل السلطة التنفيذية.
ورغم محاولات التعديل بين السلطات التي ظهرت في النصف الأول من السبعينات، من خلال إعطاء صلاحيات أوسع للحكومة وسلطة أوسع للبرلمان لمراقبة الحكومة، فقد تمّ الحد منها بإعطاء رئيس الدول حق حلّ البرلمان والحكومة وأدرجت الرئاسة مدى الحياة ضمن القوانين الدستورية. ولم تغيّر التنقيحات والإستحداثات التي أدخلت على الدستور وفي المجال التشريعي جوهر العلاقة القائمة بين مؤسسات الجمهورية.
أما من جهة الخطوات التي قطعها نظام الحكم في اتجاه الإيفاء بمميزات النظام الجمهوري، ومن بينها قيامه على المواطنة، فقد أقدم على خطوة حاسمة في إقرار المساواة بين المرأة والرجل كرّسها في إصدار مجلة الأحوال الشخصية، وألغى المراتب وأقرّ المساواة بين المواطنين في الحقوق السياسية وأمام القانون، بالتنصيص عليها في الدستور ومن خلال توحيد القضاء وجعله مدنيا ووضع منظومة قانونية صادق عليها المجلس التشريعي، مستوحاة في جوهرها من تشريعات الدول المتقدمة.
غير أنّ التشريعات ضيقت في مجال الحقوق السياسية، لمّا منحت الإدارة صلاحيات كبرى في التصرف بشأنها ولمّا جعلت الأحكام الدستورية تابعة في التنفيذ للأحكام التشريعية. الشيء الذي عطل تحوّل الحقوق السياسية إلى "حقوق طبيعية" مشاعة في المجتمع لا تقبل المراجعة.
ونخلص إلى القول أن شكل الحكم أعاق هو الآخر الجمهورية على أن تأخذ شكلها الديمقراطي.


3- النظام السياسي
والنظام السياسي هو كافة الهيئات التي تشارك في تشكيل أجهزة الدولة وتؤثر فعليا في نشاطها، بما فيها الأحزاب السياسية، في السلطة أو في المعارضة، معترف بها أو غير معترف بها قانونا.
ويمكن أن نتعرف على خصائص نظام سياسي معيّن من خلال الصلاحيات الممنوحة لأجهزة السلطة، ومن خلال نوعيّة العلاقة التي تربط الدولة بالمجتمع المدني وعلى وجه الضبط بالأحزاب السياسية، وعن طريق مكانة الرأي العام لدى الدوائر المسؤولة في السلطة العليا للدولة، عند التفكير والتخطيط واتخاذ القرار، وأخيرا عن طريق المكانة التي تعطيها الدولة للمواطنة في إدارة الشأن العام والمكانة التي يحتلها الفرد في المجتمع...الخ.
ومن زاوية تقييم الخمسين سنة للإعلان عن الجمهورية، فإن التغييرات التي شهدها النظام السياسي ظلت محكومة بالأوضاع السياسية الظرفية التي مرت بها البلاد عموما، ممّا جعلها عاجزة على أن تخرج به عن الأسس التي وضع عليه في أواخر الخمسينات ومطلع الستينات.
لقد مكّن التصور العام الذي تأسس عليه النظام السياسي السلطة التنفيذية من سلطات واسعة جعلتها تحوز على سلطة القرار في كل ما يتعلق بالشأن العام، ولم تترك للسلطتين التشريعية والقضائية سوى مجالات محدودة، مما أبقى تأثيرها في الحياة السياسية مكيفا بالموقف التنفيذي. وليس هذا فقط، بل إن الحزب الحرّ الدستوري- التجمع الدستوري الديمقراطي، اليوم- منذ أن وصل إلى السلطة، في 1956، تفرّد بالحكم ولم يترك مجالا للتعددية الحزبية وربط المنظمات والجمعيات بمواثيق جعلتها تتعاون معه حصرا.
وزيادة على ذلك، فقد نما وترعرع خلال الخمسين سنة المنصرمة بشكل أصبحت شعبه في كل مكان، في الأحياء الراقية والأحياء الشعبية، في المدينة والريف وفي الصحاري والجبال. كما تمكن من بسط ظلاله على الإدارة في جميع المستويات، بحيث لم يعد من السّهل على المواطن العادي قضاء شأن دون العودة إليه، فما بالكم بالإنتخابات التي ينزل فيها بكل ثقله.
والوضع نفسه بالنّسبة للإعلام، الذي من شأنه أن يكون مرآة لما يختلج لدى الرأي العام من آراء ومواقف وهواجس، والذي من المفروض، في نظام جمهوري، أن تعتمد عليه السلطة في تحديد اختياراتها ومخططاتها ومواقفها. غير أن حاله يستحق الرثاء. فقد قبلت به السلطة طيّعا وغير مشاكس، يعيد صياغة "الرأي العام" حسب مواقفها وحاجياتها. وقبلت في الوقت نفسه بمواطن طيّع ترك أمره بين يديها.
لذلك لم تجد السلطة نفسها في حاجة إلى تطوير نظامها السياسي وإعادة صياغة حكمها حسبما تتطلبه الأوضاع العامة بالبلاد والتطورات الحاصلة في المجتمع، وحافظت "على النمط الذي انبنى عليه الحكم وأثبت نجاعته في المسك بشؤون الدولة والبلاد والعباد".
وتكمن "نجاعة النظام السياسي" في أنه، كلما ظهر قسم من الرأي العام والمواطنين والقوى السياسية والمجتمع المدني معارضا للسلطة، واجهه بأحد الأسلوبين، أسلوب القمع وأسلوب البحث عن الحلول الوسط واستيعاب الغضب. والمتتبع للتاريخ السياسي لدولة الإستقلال يلاحظ بجلاء المراوحة بين الأسلوبين دون أن تضطر إلى تغيير جوهري في النظام السياسي، في هذا الإتجاه أو ذاك، رغم أنها أجرت تغييرات حكومية غالبا ما تكون لها علاقة بالسياسة المتبعة السابقة والجديدة.
والجدير بالملاحظة أن النظام السياسي، خلافا لأشكال الحكم وأشكال كيان الدولة، يتميز بالحركية وبقابليته للتغيير، مع المحافظة على شكل الدولة الجمهوري.
لذلك يكون من الصائب توجيه طاقات الحركة الديمقراطية من أجل إدخال إصلاحات على النظام السياسي كي يتناسب والشكل الجمهوري للدولة.



الجمهورية تواجه تعقيدات إضافية
ومخاطر جديدة
لقد ازداد وضع الجمهورية تعقيدا مع التغييرات العالمية والإقليمية الجارفة ومع حركة الرّدة العامة التي رافقتها والتي أخذت، في بلادنا، شكل هجوم مزدوج على المكاسب الجمهورية، تقوم به الحركة الإسلامية بمختلف تعبيراتها والفضائيات الخليجية الداعية لإسلام سلفي منمط أقرب إلى الإسلام الجهادي منه إلى أي صيغة أخرى من الدعوة الإسلامية.
فالجمهورية لم تعد تواجه فقط العوامل الداخلية التي تعيق تحوّلها الديمقراطي، بل أصبحت تواجه خطرا جدّيا على وجودها يأتيها من جهة المشروع الإستبدادي باسم الدين، الذي تسعى الحركتين الإسلامية والسلفية بمختلف تعبيراتهما من أجل إرسائه، خاصة وأنه أصبح يمثل أحد محاور "مشروع إصلاح الشرق الأوسط وشمال إفريقيا" الأمريكي- الأوروبي، الذي وضع لتأهيل "الإسلام السياسي المعتدل" كي يتحول، في الغد المنظور، إلى حزب تداول على الحكم.
ولا يفوتنا أن نشير إلى أن الحركة الديمقراطية واليسارية قد أربكتها "الصحوة الإسلامية" بحركيتها وعنفوانها وجماهيريتها وروحها الهجومية على العقلانية والعلمانية وسطوتها العملية وصلاتها الوطنية والدولية. وتجلى هذا الإرتباك عند ما عارضت بعض مكونات الحركة الديمقراطية واليسارية، الحل الأمني في التعامل مع الحركة الإسلامية وتجاهلت مسعاها لافتكاك السلطة باللجوء إلى الإرهاب، ثم أصبحت تبدي تعاطفا معها، باسم الدفاع عن حقوق الإنسان والمحاكمة العادلة، وانتهى الأمر بها إلى "وحدة العمل" معها في إطار "18 أكتوبر".
لقد حصل هذا الإنشقاق الفعلي في الحركة الديمقراطية واليسارية، في ظل مناورات كبرى، بمناسبة قمة المعلومات، كان هدفها الضغط على النظام، عن طريق إضراب الجوع، الذي تمّ تنظيمه بالإتفاق مع حركة النهضة، والسعي إلى جرّ الحركة الديمقراطية واليسارية وراء منظمي الإحتجاج. لكن سرعان ما ظهرت الأهداف الحقيقية من الإضراب، حيث قررت القوى المشاركة فيه، مباشرة بعد انتهائه، تحويل تحركهم إلى حركة سياسية أخذت لها كأرضية، المطالب الثلاثة التي تمحور حولها الإضراب، وكونت قيادتها بالتوافق بين جميع الأطراف، واتخذت لها من الأسماء، اسم "حركة 18 أكتوبر". والحالة تلك، لم يكن بوسع الحركة الديمقراطية واليسارية أن تتبين، في الإبان، أن "وحدة العمل" في إطار "حركة 18 أكتوبر" كانت وحدة في غير صالح الجمهورية باعتبارها جرت مع أعداء الجمهورية ولصالحهم، ولم تتبين أن ما حدث هو انشقاق فعلي في صفوف الحركة الديمقراطية واليسارية.

الدفاع عن الجمهورية، يعني تأصيل
المبادئ والقيم الديمقراطية
التي تقوم عليها مؤسسات
النظام الجمهوري

ويتضح ممّا سبق ذكره، أن الجمهورية تواجه عوائق تطورها الخاصة ومخاطر الرّدة، ولن تتمكن من الثبات إلاّ إذا تأصلت ديمقراطيا وأغلقت الباب نهائيا أمام مشروع الدولة الدينية الذي تدعو له الحركتين الإسلامية والسلفية بمختلف تفرعاتهما.
ويعتقد الحزب الإشتراكي اليساري، في هذا الصدد، أن الدفاع عن النظام الجمهوري يعني تأصيل المبادئ والقيم الديمقراطية والآليات التي تقوم عليها مؤسسات الجمهورية، والتي تتمثل في:
- فصل الدين عن السياسة وضمان حياد الدولة تجاه المعتقد.
- احترام الحريات العامة والفردية وحرية المعتقد وحقوق الإنسان.
- المساواة التامة بين المرأة والرجل وإزالة كل مظاهر التمييز بين الجنسين.
- قيام الجمهورية الديمقراطية على المواطنة الكاملة.
- اعتبار الإقتراع العام المباشر المصدر الشرعي الوحيد للحكم.
- احترام المجتمع المدني باعتباره فضاء للمواطنة والحرية والتعاقد ومجالا من مجالات السلطة المضادة.
- حياد الإدارة تجاه المواطنين بفطع النظر عن معتقدهم وانتمائهم السياسي وتحجير كل مظاهر التدين في المؤسسات العمومية والإدارة.
- التداول على الحكم والفصل بين السلطات.
ويعتبر الحزب الإشتراكي اليساري أن ضمان تحوّل ديمقراطي للجمهورية يستوجب تأصيل بنائها على العلمانية باعتبارها أساسا من الأسس التي تقوم عليها مؤسسات الدولة. ولا يحدث ذلك إلاّ حينما تصبح الدولة دولة سياسية، بأتمّ معنى الكلمة، أي حينما يتحقق الفصل فيها بين الشأن العام، أي السياسة، والشأن الخاص، أي المعتقد.
ويؤكد الحزب الإشتراكي اليساري أن الدولة العلمانية، التي تحقّق فصل الدين عن الدولة، ليست معادية للمعتقد بل تشيع حرية المعتقد وممارستها وتحترمها وتصونها، وهي محايدة تجاه جميع العقائد وتحجر استغلالها وتوظيفها في السياسة.
ويعتقد الحزب الإشتراكي اليساري أن الجمهورية في صيرورة تحولها الديمقراطي بإمكانها أن تأخذ طابعا شعبيا إذا ما تحمّل اليسار والقوى الشعبية دورا فعالا في الأطر الجماهيرية وفي مساعدة الشعب على اقتحام الفضاءات العامة والمشاركة بصورة فعّالة في النضال من أجل الحريات والديمقراطية.


الإصلاحات التي يقترحها
الحزب الإشتراكي اليساري
لتحوّل الجمهورية ديمقراطيا

ومن أجل تطوير مناعة الجمهورية ودعم بنائها وتوفير الظروف الأنسب لتحولها ديمقراطيا، يقترح الحزب الإشتراكي اليساري إدخال الإصلاحات التالية:


1- المنظومة القانونية
أ- المادة الدستورية
يعتبر الدستور الأساس القانوني الأعلى الذي تقوم عليه الدولة الديمقراطية، أي دولة القانون- دولة الحق. لذلك فهو يتسم بالإستقرار في مبادئه وأحكامه، ممّا يفترض أن تتماشى التنقيحات والتعديلات الجزئية، التي تدخل عليه، مع الفلسفة والروح التي تقوده. ويتولى المجلس التشريعي مناقشتها والمصادقة عليها.
أما إذا تعلق الأمر بـ"تنقيحات" و"تعديلات" تمسّ من جوهره، أي تتعارض مع فلسفته وروحه، فإنها تخرج بالضرورة من صلاحيات مجلس النواب، لتعرض على الشعب مباشرة للإستفتاء أو تتم الدعوة إلى مجلس تأسيسي لإعادة صياغة المادة الدستورية التي تؤسس بالضرورة لقيام أسلوب حكم جديد.
وبالنظر للتنقيحات العديدة التي أدخلت على الدستور التونسي والتي شملت أغلب فصوله، ومنها ما كان مناقضا لروحه، زيادة على الصياغات التي جعلته في تطبيق العديد من أحكامه تابعا للقوانين التشريعية وعلى رفع منزلة البعض منها لمقام القوانين الدستورية، مثل قانون الأحزاب، فقد فقدت المادة الدستورية علويتها واستقرارها ومكانتها في تنظيم الدولة والمجتمع.
لذلك فهي في حاجة إلى مراجعة جوهرية جديدة تعيد الإعتبار لعلوية الدستور واستقراره ومكانته في المنظومة المؤطرة للدولة والمجتمع وتتأصل فيه مبادئ وقيم وآليات النظام الجمهوري وتثبت المكاسب التي تحققت في المجتمع التونسي.

ب- المادة التشريعية
ويعتقد الحزب الإشتراكي اليساري أن شكل الحكم الديمقراطي يقوم على أسلوب إدارة للشأن العام تعتمد على مجموعة من القوانين والتشريعات التي لا تتعارض في أحكامها مع روح الدستور، ونخص بالذكر منها، قانون الجمعيات وقانون الأحزاب ومجلة الصحافة ومجلة البريد والمجلة الإنتخابية ومجلة الأحوال الشخصية...الخ.
كما يعتقد أن شكل الحكم الديمقراطي هو الذي يجعل من ممارسة الحريات أساس الحياة السياسية والفكرية والثقافية ونشاط التيارات والأحزاب السياسية الديمقراطية والتقدمية ومكونات المجتمع المدني، وهو الذي يطور الإعلام بشكل يصبح به الرقيب العام في المجتمع والسلطة الرابعة التي يقوم عليها الحكم الديمقراطي.


2- مؤسسات الحكم
ويعتقد الحزب الإشتراكي اليساري أيضا أنه ينبغي العمل على أن تتوافق مؤسسات الحكم مع مبادئ النظام الجمهوري القائمة على التفريق بين السلط والتداول على المسؤولية وعلى استقلالية القضاء وتوفير الضمانات الكافية للقاضي في ممارسته مهنته وعلى مسؤولية الحكومة أمام المجلس التشريعي وعلى هيئات عليا للرقابة.


3- الجمهورية والمواطنة
يعتقد الحزب الإشتراكي اليساري أن الإستقلال رفع عن الإنسان التونسي وضع الرعيّة الذي كان عليه في العهد البايوي ودخل به طور المواطنة. ثم أتى دستور1959 ليجعله شريكا في إدارة الشأن العام وركيزة أساسية يقوم عليها النظام الجمهوري. وهو وضع كان يفترض أن يضمن له حقوقه وحرياته دستوريا وأن تكون محترمه قانونيا وإداريا. لكن، وبما أن مجال الحقوق والحريات ظل يتسع ويضيق، حسبما تمليه الأوضاع السياسية، فقد أثر على وضع المواطنة، من زاوية تأثيرها على قرار السلطة واختياراتها، إذ تضاءل بشكل مفزع في العديد من الفترات، إلى حد أصبح فيه المواطن هامشيا على الحياة العامة وسلبيا. وهو وضع يمكن أن تستفيد منه قوى التطرف والمغالاة، من خلال توظيف "ردة فعل" الناقمة للمواطن على تردي أحواله. ففي مثل هذه الظروف الغامضة، وصل هنلر إلى الحكم عن طريق الإنتخاب، ومن قبله ميسوليني، كما وصل الخميني إلى السلطة عن طريق ثورة شعبية. والأمثلة عديدة، المهم أن نتعظ بالدروس التي مكننا منها التاريخ بتضحيات وآلام ومآسي شعوب وأمم أخرى.

4- النظام الجمهوري والإقتراع العام
يمثل الإقتراع العام الشكل السياسي الذي يعبر به الشعب عن إرادته ويختار من يمثله ومن يحكمه. وأصبح بصفته تلك حقّا من حقوق الإنسان الأساسية. وأقر دستور 1959 حقّ الإنتخاب والترشح لكل مواطنة ومواطن حسبما يضبطه القانون.
لكن القانون الإنتخابي القائم على نظام القائمات الأغلبية في دورة واحدة يعيد إنتاج الأغلبية ذاتها وبالتالي نمط الحكم ذاته، ويزيح من دائرة التمثيل النيابي والبلدي ومن دائرة الفعل السياسي الإيجابي قوى سياسية أخرى تعبّر عمّا يختلج بين ظهراني المجتمع ويترك الحياة السياسية محتكرة من قبل "الحزب - الدولة" أو"الحزب – الإدارة".
وعلى الرّغم من وجود قوانين تقيّد الإقتراع العام وتحدّ من سلطته، فقد سعت السلطة، منذ مطلع الستينات، إلى مزيد التضييق عليه، فقد حولته إلى مجرد تزكيّة لقائمات الحزب الحاكم، تحت شعار "لا إمساك ولا تشطيب". ثم أدخلت عليه جرعة من المنافسة فيما بين قائمات الحزب الحاكم نفسه. وبعد 7 نوفمبر أجريت تنقيحات سمحت للمعارضة بالحصول على نسبة من المقاعد النيابية والبلدية محددة سلفا لا تمس من الأغلبية المريحة للحزب الحاكم.
إن التنقيحات المتتالية التي أدخلت على المجلة الإنتخابية لم تراجع النظام الإنتخابي، في جوهره، بل ظل على حاله مولدا لاحتكار الحزب الحاكم للهيئات التمثيلية والإدارة والحياة السياسية.
ويعتقد الحزب الإشتراكي اليساري أن الإصلاح الذي ينبغي إدخاله على النظام الإنتخابي، هو إلغاء نظام القائمة الأغلبية في دورة واحدة وإحداث نظام جديد يمزج بين القائمة الأغلبية في دورتين والتمثيلية النسبية والترشحات الفردية، مع ضرورة التنصيص على تجريم التزوير وعدم احترام سرية الإنتخاب. وهي إصلاحات تجعل من الإقتراع العام دعامة فعلية للجمهورية الديمقراطية.
ونختم مقترحاتنا لتطوير الجمهورية ديمقراطيا بشعار،

معا من أجل الجمهورية الديمقراطية !!

تونس في 25 جويلية 2007




Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire