lundi 13 juillet 2009

عولمة وأمركة المنطقة العربية والمسألة القومية

سقوط الأقنعةالأمريكية
وجرائم حرب بالجملة

لم تخرج المنطقة العربية والشرق أوسطية، منذ فجر التاريخ، من دائرة الزوابع والصراعات الإقليمية والدولية. بحيث كانت ولازالت محط أنظار الدول العظمى والأمبراطوريات، لموقعها الإستراتيجي وممراتها البحرية وخيراتها، زيادة على ثرواتها النفطية التي تم اكتشاف باكوراتها منذ أواخر القرن19 وبدايات القرن20، مما جعلها عرضة للتحرش والإعتداء والغزو. فقد مر منها التاتار والوندال والرومان والفرس والبيزنطيون والعثمانيون والبريطانيون والفرنسيون.
وها هي ذا اليوم تشهد حروبا عدوانية تقودها الأمبراطورية الأمريكية من أجل إعطاء صياغة جيو- سياسية جديدة للمنطقة تتناسب ومصالحها السياسية والإقتصادية والإستراتيجية ومن أجل وضع يدها على الثروات النفطية الشرق أوسطية. فقد اعتبر قادة البيت الأبيض "أن حضورا دائما لأمريكا في العراق من شأنه أن يكون بمثابة"صعقة" لكافة دول المنطقة" تسهل عليهم تغيير الحكام فيها وتنصيب آخرين قادرين على السير في إطار النسق الجديد الذي تريد أمريكا فرضه على العالم .لذلك لم تكترث إطلاقا بالشرعية الدولية ولا بمعارضة حلفائها الأوروبيين ولا بالإحتجاجات العارمة للرأي العام العالمي والعربي ولا بمدى مصداقية تعلة "أسلحة الدمار الشامل" التي أثارتها لشن حربها العدوانية المدمرة على العراق واستعماره عنوة وتنصيب مجلس حكم استجلبت أغلب مكوناته من المهجر على ظهور دباباتها، ثم حكومة أغلب عناصرها عملاء للمخابرات المركزية الأمريكية، بمن فيهم رئيسها الذي يفتخر بعمالته لأجهزة مخابراتية متعددة.
لم تكتف أمريكا، منذ أن وطأت أقدامها العراق، بارتكاب الجريمة تلو الأخرى، غير عابئة بشعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان التي كانت رفعتها في وجه النظام العراقي. فقد مارس جيشها، بأوامر مركزية، التعذيب الوحشي ضد المقاومين العراقيين وتعمد الإعتداء على الذوات بما في ذلك الإعتداء الجنسي، الذي تورط فيه الغزاة البريطانيون أيضا. وجابت شهادات إدانة هذه الجرائم في حق الإنسانية العالم بأسره.
كما حاصرت فرق المارينز الفلوجة وعرضتها للقصف المدفعي والجوي والصاروخي لما يزيد عن ثلاثة أسابيع، بهدف إخضاعها وإطفاء روح المقاومة لدى الشعب العراقي. وهي الآن، تحاصر المقاومة الشيعية التي يتزعمها مقتدى الصدر في النجف وكربلاء.
واستعملت أمريكا في حربها العدوانية، في العراق وفي أفغنستان، مادة اليورانيون"المفقر"، عالية التدمير وذات إشعاعات نووية خطيرة على الحياة بمختلف أشكالها في دوائر فعلها. وتهدد هذه الإشعاعات المواطنين والغزاة على حد السواء بما قد ينتج عنها من أمراض وتشويه للناشئة.
يؤكد استعمال هذه الأسلحة مدى استخفاف سادة البيت الأبيض، وعلى الأخص منهم فريق الصقور، بالذات البشرية. وهي عقلية وروح تكشف عن الوجه الحقيقي لهذا الفريق، الذي مسك بالسلطة، منذ أن صعد بوش الى الحكم عن طريق انتخابات مشبوهة، كفريق فاشي وعنصري ومثير للحرب.
لقد تبخر وهم "الحرية والديمقراطية والرفاه الإقتصادي والإجتماعي وعصر نهاية الإيدولوجيات"، الذي كانت أشاعته النيوليبيرالية عند انهيار جدار برلين، مع الحرب الثانية على العراق واحتلاله عنوة، تماما كما حدث "للنظام العالمي الجديد"، مع حرب الخليج الثانية، التي شنتها قوات تحالف33 دولة، بزعامة أمريكا، على العراق، في مطلع التسعينات من القرن الماضي.
ولا يختلف إثنان على أن دخول أمريكا العراق باسم "تحرير" شعبه من دكتاتورية صدام، لم سوى تعلة واهية لغزوه وإخضاعه. فقد عرضته وتعرضه لدكتاتورية أفضع، دكتاتورية الحديد والنار والتقتيل والتجويع وانتهاك حقوق الإنسان على أوسع نطاق وضرب أبسط مقوماته الوطنية والحضارية والإنسانية .
كما أن دخولها العراق باسم "الحرب العالمية الثالثة" ضد الإرهاب ومن أجل التخلص من "أسلحة الدمار الشامل التي تمثل خطرا على أمنها القومي"، ليس سوى تبرير واه لغزوه باعتبارها سيدة إرهاب الدولة على النطاق العالمي زيادة على كونها الممول والمشجع للحركات الإرهابية باسم الدين الإسلامي في العالم ولا يمكن لأحد أن ينسى أن بن لادن صنعته وكالة المخابرات المركزية الأمريكية وأن الطالبان هي التي رفعتهم الى السلطة….. إلخ.
ولا يخفى على أحد، أن أمريكا دخلت العراق غازية للإستحواذ على منابع النفط فيه وفي الخليج العربي وفي عموم منطقة "الشرق الأوسط الكبير". فاتبعت أسلوب دولة امبريالية عظمى، تتصرف بروح الأمبراطوريات القديمة وبأدوات دمار لم تسبقها لها دولة في العالم، تخضع الشعوب والأمم والبلدان وتدمر حضارات بأكملها، بلا تردد، دفاعا عن مصالحها التي أضحت عالمية.

حرب الإبادة الشارونية جزء من مخطط
الإخضاع الأمريكي للمنطقة

لقد عول الصقور على انتصار سريع وساحق في العراق آملين في أن يمكنهم من "دفع سيرورة السلام في المنطقة ويوفر(لهم) إمكانية فعلية لإقامة دولة فلسطينية ديمقراطية فعلا"(القولة لبوش الإبن)، أي دولة على قياسهم عاجزة على الخروج من دائرة مشروع "الشرق الأوسط الكبير" وتابعة بصورة فعلية لإسرائيل. لذلك أعطوا الضوأ الأخضر لشارون كي يشن حرب إبادة ضد الشعب الفلسطيني ويحتل أراضيه المعترف بها دوليا ويجبر سكانها على الرحيل ويقيم مستوطنات جديدة ويشيد جدارا عازلا، في الضفة الغربية، يرمز للعنصرية والتعصب والعرقية، ويدمر الأحياء المتاخمة للحدود المصرية، في قطاع غزة ويخطط لحفر قناة "بحرية"حدودية عازلة. كل ذلك يحدث والعالم بأسره شاهد على مثل هذه الجرائم في حق الإنسانية، ومجلس الأمن والأمم المتحدة في عجز على اتخاذ قرارات قابلة للتنفيذ ضد الكيان
الصهيوني.
يرتكب الصهاينة، منذ أن كانت فلسطين تحت الإنتداب البريطاني، جرائم بشعة في حق الشعب الفلسطيني، بما فيها حملات الإبادة الجماعية، ودير ياسين وصبرا وشاتيلا وجينين شاهدة. ومع ذلك لم يتعرض أيا كان من مرتكبيها للتتبع من قبل محكمة العدل الدولية ولم تتعرض إسرائيل لعقوبات اقتصادية من جراء ذلك.
ولم يكفها ما قامت به من حروب واحتلال أراض الدول العربية المجاورة واغتصاب مزيد من الأراضي الفلسطينية، بل أقدمت، منذ أن دخل الجيش الإسرائيلي الضفة والقطاع، على تنظيم حملة مداهمات واسعة النطاق للإستحواذ على وثائق السلطة الفلسطينية وعلى تدمير كل البنيات الرسمية التي ترمز لها وأوقفت القادة الميدانيين للإنتفاضة والنشطاء. ومنذ عام تقريبا ربطت مع تقاليدها القديمة في الإغتيالات السياسية فسقط ضحيتها أبو علي مصطفي الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ليأخذ مكانه الى جانب غسان كنفاني وكمال ناصر وكمال عدوان وأبوجهاد وقادة آخرين من منظمة التحرير. وفي الأشهر القليلة الماضية أقدمت على اغتيال الشيخ ياسين مؤسس حركة حماس وبعده بأيام أحمد الرنتيسي. وأصبح شارون يتوعد، عرفات، بالتصفية الجسدية علنا، متجاوزا بذلك كل الأعراف الدولية الخاصة بعدم تعريض حياة رؤساء الدول للخطر، تماما كما فعل أصدقاؤه في البيت الأبيض لما أوقفوا نوريغا وهو رئيس دولة وحاولوا اغتيال صدام مرارا عند غزوهم للعراق وحاولوا اغتيال القذافي في هجومهم على العزيزية وحاولوا الإطاحة بشافيز.
إن سياسة إرهاب الدولة التي يمارسها شارون تؤكد أنه يواصل التقاليد التي قام على أساسها الكيان الإسرائيلي كدولة، أي اغتصاب الأرض الفلسطينية عن طريق العصابات المسلحة وإقامة المستوطنات التي تتخذ كنقاط ارتكاز نحو مزيد من التوسع على حساب المالكين الشرعيين. ويواصل سلوك أسلافه كخارج عن القانون، لايحترم القوانين المؤطرة للمجتمع الدولي وأعرافه، بل يفرض عليه كل يوم واقعا جديدا يجعل منه قاعدة جديدة للمساومة والتفاوض.
وتحضى إسرائيل بمساندة غير مشروطة من قبل أمريكا التي ترفع في وجه كل محاولة لإدانتها حق النقض وتجعل من كل قرارات المجموعة الدولية في شأنها حبرا على ورق. وقد وصل الأمر بالرئيس الأمريكي الحالي، في الآونة الأخيرة، الى حد اعتبار "حق العودة" خرافة لا يمكن الأخذ بها، رغم أنه قرار أممي.

الشعبين العراقي والفلسطيني في الصف الأمامي لرد الهجوم الأمريكي- الصهيوني
على المنطقة

لا ينكر أحد أن الشعبين العراقي والفلسطيني يواجهان الهجوم الإستعماري- الصهيوني على المنطقة العربية بمقاومة تشتد ضراوة يوما بعد يوم.
فها هي ذا المقاومة المسلحة في العراق المحتل تتحول كل يوم الى حرب تحرير وطنية شاملة. فقد فرضت الفلوجة على العديد من القوى التي كانت التزمت الفرجة أو تعاونت بشكل أو بآخر مع الإحتلال، الإلتحاق بالمقاومة مباشرة وبفتح جبهات مواجهة خاصة بها. ولولا المقاومة في العراق، التي تديرها على نطاق واسع إطارات سياسية وحزبية وعسكرية تابعة للنظام البعثي المطاح به وقيادات شعبية وعشائرية ودينية وبعض القوى التقدمية والجناح الوطني من الحركة الشيوعية، لمدت أمريكا يدها الى سوريا وإيران وحتى الى ليبيا ولأصبحت نزعتها التحكمية أكثر وقاحة وصلف، بما في ذلك تجاه الدول العظمى.
فشلت أمريكا في تطبيق برنامجها بالسرعة التي كانت تحلم بها، بحيث أن مهمة تنصيب نظام تابع لها تلاقي عوائق جمة ومعارضة جدية من قبل أوروبا وروسيا على الأخص، وأن ضخ النفط العراقي في السوق العالمية لم يبدأ بعد على الصورة المأملة بل والأخطر من ذلك أن أسعاره شهدت ارتفاعا ملحوظا جعلها تتجاوز حدود الـ40 دولارا للبرميل الواحد.
وزيادة على ذلك فقد عجزت قوات الإحتلال على تحقيق قدر من الأمن يشجع المستثمرين على التوجه الى العراق، باستثناء الـ4000 مرتزق الذين يقومون بحماية المؤسسات والأشخاص الأجانب أو يقومون بمهمات خطيرة يصعب على الجيش الإستعماري القيام بها.
ولم تتوقف مصاعب أمريكا عند هذا الحد بل تعدته الى أن حلفاءها الأقربون بدأوا يغيرون موقفهم من مسألة توجيه عساكرهم للمشاركة في تركيع العراق ومنهم من بدأ بسحبها وأولهم الإسبان الذين كانوا في التحالف الثلاثي الذي قرر الحرب لما كان أزنار رئيسا للحكومة.
وفي فلسطين، ها هي ذا الإنتفاضة تقف في وجه مشاريع التصفية وتتصدى للغزو الشاروني وتدفع كل فصائل المقاومة الى التوحد حول راية واحدة والتخلي عن العمل الإنفرادي وتوجيه ضرباتها كل يوم أكثر ضد الآلة العسكرية الإسرائيلية والمستوطنات الجديدة في المناطق التي تعود بالنظر للسلطة الفلسطينية.
لم يدخر شارون جهدا من أجل إقامة دويلة فلسطينية تابعة لإسرائيل، فاستعمل الضغط والتهديد والوعيد والمناورية وتوجيه الضربات المحدودة، وحاول إضعاف الصف الفلسطيني بإثارة الإقتتال بين مختلف فصائله، ودفع الخلافات صلب منظمة التحرير حول المراكز الحساسة الى أقصاها، بعد أن تمكن بمعية أمريكا من إدخال "إصلاح سياسي على السلطة الفلسطينية"، وحاول إزاحة عرفات بالإعتماد على الوزير الأول. ولكنه لما فشل في هذا المسعى توجه رأسا الى إنجاز مشروعه بنفسه عن طريق التصفية الجسدية والإغتيال السياسي والإحتلال المباشر للضفة وغزة.
لقد شاء مجرى التاريخ أن أوكل للشعبين العراقي والفلسطيني مهمة المواجهة المباشرة، من مواقع أمامية، للتسلط الإستعماري التوسعي الأمريكي- الصهيوني على الشرق الأوسط والمنطقة العربية، وأن يبوئهما مكانة المفرزة المتقدمة التي توضح السبيل أمام الشعوب العربية وسائر الشعوب والأمم المضطهدة في العالم.
وبالنظر لأهمية الصراع الدائر في العراق فأن تراجعا أمريكيا، تحت ضربات المقاومة، سوف يكون له أثره البالغ على الأوضاع الدولية وعلى الحركة الجماهيرية بوجه خاص، والشأن نفسه بالنسبة للوضع في فلسطين.


الإرهاب الديني : أسبابه وخصائصه
والجهات التي تقف وراءه

تمارس قوى عديدة الإرهاب الشنيع ضد المدنيين العزل باسم الدين وترتكب جرائم في حق الإنسانية بدعوى التصدي للإمبريالية والصهيونية، أو"للكفار واليهود". وقد طال هذا الإرهاب الأعمى بلدانا عربية وإسلامية وأخيرا السعودية وتركيا وسوريا وخاصة العراق الذي يعاني الأمرين من إلإستعمار الأمريكي – البريطاني والذي أصبح ميدان اختبار للفرق الإرهابية باسم الدين الإسلامي.
نحن ندين الإرهاب مهما كانت الإيديولوجيا التي يعتمدها ومهما كانت الجهة التي تقف وراءه، ونوجه أصبع الإتهام، في وجوده، للأوضاع التي ولدته. وهي، دون شك، الأزمة الإقتصادية والإجتماعية والقيمية وانسداد الأفق والضياع والهامشية والفقر والتشرد وضرب قيم العقل والإخاء والسلم وإشاعة الفردانية وإفراغ العلاقات الإجتماعية من مضمونها الإنساني وإشاعة روابط المصلحة والنفعية الصرفة، التي هزت البناء الإجتماعي والإقتصادي والقيمي للمواطن ودفعت به الى البحث عن حلول ماورائية كامنة في مخزونه الثقافي والروحي.
كما نوجه أصبع الإتهام للنظم العربية القائمة على أساس الدين أو تلك التي توظفه كإيديولوجية إخضاع وتصادرالحريات وتحرم شعوبها من التعبير عن إرادتها وتقمع معارضيها وتنظم تصفيتهم عن طريق التهرئة المادية والمعنوية والتجويع والمضايقة والإيقاف والتعذيب والسجن والمعاملة السيئة والأحكام القاسية التي تصل الى حد الحكم بالسجن المؤبد والإعدام.
إن انعدام الحريات واستغلال الدين من قبل الدولة، يشرع لبعض القوى السياسية التستر بالدين وتحويله الى أداة إيديولوجية رهيبة لتعبئة المستضعفين ضد الجور والفقر وللتبشير بعالم يسوده العدل الرباني المادي والمعنوي ويجعل منه وسيلة كفاحه ضد النظم القائمة.
وزيادة على ذلك فإن الحركة الديمقراطية، وعلى الأخص جناحها اللائكي، مازالت تعيش على وتيرة التشتت والفرقة فيما بين مختلف فصائلها والعزلة عن الشعب ومازالت تفتقر لبرنامج موحد بديل عن نظم الحكم القائمة وعن المشاريع الإستبدادية باسم الدين يخدم مصلحة الشعب والوطن ويؤهلها كي تتحول الى مركز استقطاب ثالث في المجتمع.
إن حالة الضعف والوهن التي عليها الحركة الديمقراطية هي التي تركت المجال مفتوحا أمام النظم القائمة كي تبقى في مواقعها لما يناهز عن نصف قرن وأمام الحركات الإسلامية كي تنتصب في مقام الناطق باسم الشعب والوطن وباسم الحرية والديمقراطية على مسرح السياسة الوطنية والإقليمية والدولية.
وفي كلمة فإن الظروف الذاتية والموضوعية للحركة الشعبية والديمقراطية هي التي مثلت الأرضية الخصبة لظهور الحركات الدينية، وعلى الأخص في المجتمعات العربية الإسلامية، في مقام البديل الناجز وهي التي خولت لبعض القوى الإنفلات في اتجاه أقصى اليمين لتتحول الى حركات إرهابية باسم الدين.
وينبغي أن ندرك جيد الإدراك أن هذه الحركات تجد التعاطف الكبير في الأوساط الشعبية المكبلة بمشاعر المهانة الوطنية والإذلال القومي التي ولدها حصار العراق وغزوه ومحاولة إبادة الشعب الفلسطيني على مرآى ومسمع من المجتمع الدولي.
وخطورة هذا النوع من الإرهاب هو أنه محصن بتبرير عقائدي ديني وبالتالي فإن سلطته على الإنسان تتجاوز ما يمكن أن يخوله له الإدراك العقلي. إذ يكفي أن يفتى في الأمر كي لا يتردد الإرهابي على الإقدام على أبشع الجرائم. ويكفي أن نشير، في هذا الصدد، الى ما جرى في الجزائر من عمليات تذبيح وتقتيل جماعية، تصفى عن طريقها عائلات وقرى بأكملها، والى عمليات 11 سبتمبر ومدريد والرياض والى فلسطين والعراق… إلخ.
ولا ندعي في العلم فلسفة، إذا قلنا أن حماية الشعوب والمجتمعات من هذا التيار، تكمن في إشاعة قيم العقل والحرية وفتح باب النقاش الفكري والسياسي على مصراعيه وتوفير الفضاءات اللازمة لذلك والسماح لقوى المجتمع المدني والسياسي كي تتحمل مسؤولياتها كاملة أمام الشعوب دون عائق. وعلى هذا النحو تكسب المجتمعات مناعة ذاتية لا تعادلها، في أي مستوى كان، الحلول الأمنية التي تتوخاها بعض الأنظمة.
إن المسؤول الأول على مثل هذا الوضع هي، مرة أخرى، النيوليبيرالية، لأنها مكنت قلة قليلة من تنمية ثرواتها بشكل خيالي، سواء أكان ذلك على النطاق المحلي أو العالمي، ورمت بالأغلبية الساحقة من البشر للعيش في ظل عدم الإطمئنان على المستقبل، وبما يناهز عن المليار والنصف الى العيش على حافة الفقر.
والأخطر من كل هذا، أن دولا كانت مولت وسلحت وسهلت عمل القوى الإرهابية الدينية، وعلى رأسها أمريكا وبريطانيا لضرب الوجود السوفياتي- سابقا- أو لإعادة ترتيب الأوضاع في بعض البلدان العربية والإسلامية العنيدة أو لمواجهة اليسار وإيقاف تنامي الحركة الإجتماعية وإغراقها في الماضوية كي تقبل بتنفيذ برامج الإصلاح النيوليبيرالية دون معارضة تذكر.
وكانت السعودية وإمارات النفط الخليجية ومصر شركاء أمريكا في تنظيم عمليات تفريخ هذا المارد، لما كانت المواجهة على أشدها في أفغنستان من أجل دحر الوجود السوفياتي. ولم تكتف بذلك بل أمعنت في مزيد إغراق الشعوب في متاهات الفكر الظلامي والماضوي عن طريق الفضائيات التي تشيع الخرافة وتقسم المجتمع الى مسلمين وكفار وتعيد صياغة العقليات العامة للشعوب والنخب بما يجعلها تقبل بالتطرف الديني وبالإرهاب الديني كمكونات عضوية من رد الفعل المشروع على الإضطهات الوطني والقومي والإستغلال والنهب المنظم للخيرات الوطنية.
ومما يشرع هذه الإختيارات الإرهابية باسم الدين، في نظر الشعوب، هي أيضا السياسة القمعية التي تنتهجها النظم القائمة في البلدان العربية الإسلامية.
لكن السحر انقلب على الساحر ونال كل نصيب مما زرع.
وكما هو معلوم، فقد كان ظهر صنف آخر من الإرهاب، أخذ شكل تصدير للثورة الليبية والإيرانية، غير أنه لم يأخذ الأبعاد التي أخذها إرهاب تنظيم "القاعدة"، وهو يعيش ردحاته الأخيرة.

الإرهاب الديني والنضال الوطني
الفلسطيني والعراقي

ويمكن القول أن أكثر أنواع الإرهاب المثيرة للجدل في جميع الأوساط، هو ذاك الذي تقوم به حركة حماس الفلسطينية وذاك المسجل على حساب المقاومة العراقية، باعتباره ملتصقا بنضال الشعبين الفلسطيني والعراقي ضد العنجية الصهيونية والأمريكية وبما ترتكبان يوميا من جرائم.

أ- على النضال الفلسطيني أن يستهدف أجهزة
الدولة الإسرائيلية والعصابات الصهيونية

تمثل الآلة العسكرية وأجهزة الأمن والمخابرات الركيزة الأساسية التي تقوم عليها دولة إسرائيل، وهي القلب النابض للوجود الصهيوني في فلسطين والشرق الأوسط.
ونود، بادئ ذي بدإ، أن نقدم التوضيح التالي، في شأن الموقف من الدولة الإسرائيلية.
إن هذه الدولة أو لنسميها "كيانا" أو ما طاب لنا من الأسماء، لها مؤسساتها السياسية، التنفيذية والتمثيلية، والقانونية والعسكرية والإدارية ولها حدود تتوسع باستمرار على حساب الشعب الفلسطيني وعلى حساب الدول العربية المجاورة ولها عضوية المنتظم الدولي. وهذه المؤسسات والوظائف والحدود والعلاقات الدولية، مجمعة، هي التي تعطيها صفة الدولة. وهذا "الكيان- الدولة" هو الذي يحتل فلسطين وينظم الإستيطان ويشرد الشعب الفلسطيني من دياره ومن أرضه ويرتكب جرائم الحرب في حقه.
والمنطق يقول أن النضال الفلسطني ينبغي أن يستهدف المؤسسات التي يقوم عليها هذا الكيان، كي يتمكن الشعب الفلسطيني من تحقيق تحرره الوطني والإجتماعي.
لكن وبما أن هذه "الدولة- الكيان" قامت على اغتصاب أرض من أصحابها وشردتهم ونصبت عوضا عنهم جماعات استجلبتهم من مختلف بلدان العالم موهمة إياهم "بأرض الميعاد"، فإن لها مليشيات مسلحة تحمي كل مستوطنة جديدة تقيمها وتسلط الإرهاب المنظم على الشعب الفلسطيني لإجباره على هجر أرضه ودياره ولتوسيع المجال الحيوي للمستوطنات.
ومن المنطقي، والحالة تلك، أن يستهدف النضال الفلسطيني هذه المليشيات كي يحمي نفسه من الإرهاب الصهيوني غير الرسمي ويمضي قدما في اتجاه تحقيق مطامح الشعب الفلسطيني المشروعة في التحرر الوطني والإجتماعي.
وبما أن هذا "الكيان- الدولة" قائم على أساس الدين -"اليهودية"- وعلى أساس الإيديولوجيا الصهيونية، فإن الجماعات الدينية المتطرفة والعنصرية المسلحة تمثل إحدى الدعائم السياسية الأساسية لهذا "الكيان"، والتي غالبا ما تلتجئ السلط الإسرائيلية لخدماتها.
ومن المنطقي أيضا أن يستهدف النضال الفلسطيني هذه الميليشيات المسلحة دفاعا عن الشعب الفلسطيني وحماية له من الإرهاب الصهيوني.
والى جانب هذا الكم الهائل من أدوات الإرهاب الرسمي وغير الرسمي توجد جماعات أخرى من المستجلبين، عمال ومثقفون وحرفيون وشغالون انجروا عقيديا وراء الدعاية الصهيونية وطمعوا في الجنة الموعودة، وهم اليوم يريدون العيش بسلام ويأملون في معالجة "وفاقية" مع الفلسطينيين، ومنهم من رفض المشاركة في أعمال "شارونية" ضد الشعب الفلسطيني بما في ذلك ضباط في الجيش الإسرائيلي وهم الذين تجمعوا بعشرات الآلاف احتجاجا على شارون منادين بالسلام الآن.
وعلى أساس هذه الفوارق في السلوك تجاه الفلسطينيين، في الصف الإسرائيلي، يتحدد الموقف من العمليات، إن كانت إرهابية أم لا.
إن العمليات التي تستهدف "جهاز القمع والإرهاب الصهيوني"، الرسمي وغير الرسمي، تدخل في إطار المقاومة والنضال الوطني، أما تلك التي تترك هذه الأجهزة بعيدة عن الأذاء وتستهدف مواطنين عزل، فتعد عمليات إرهابية صرفة تكون ذريعة لتكالب الآلة الصهيونية القمعية ضد الشعب الفلسطيني لا غير، ولتلحق به مزيدا من المآسي والآلام.
وبما أن العمل الإرهابي يقدم خدمات جليلة للفرق الأكثر تطرفا في البورجوازية كي تلتجئ لأشد الأشكال قهرا من بين أساليب حكمها، وانحيازا منا الى جانب الشعب، فإننا نقف ضد العمل الإرهابي حتى وإن كان في فلسطين.

ب- الإرهاب الديني يثير الشكوك
حول المقاومة في العراق

كانت العديد من الفرق الدينية الجهادية لبت نداء الدفاع عن بغداد ورد الغزاة على أعقابهم. لكن بغداد سقطت في ثلاثة أسابيع، وظل المتطوعون العرب والمسلمون، بما في ذلك الفرق الإنتحارية، يحملون سلاحهم، الى جانب الجماعات الإسلامية المتطرفة العراقية.
وبما أن سقوط بغداد حتم على حزب البعث الذي كان يحكم العراق وعلى ما يناهز عن الـ5000 رجل من رجالات النظام المطاح به، مسلحين ومدربين أحسن تدريب(حسب تقديرات أجهزة المخابرات المركزية الأمريكية وبعض الخبراء العاملين في العراق)، الإنطلاق في المقاومة شهرا بعد الغزو مباشرة. كما حتم على العديد من القوى الوطنية، بما في ذلك تلك التي كانت تعارض النظام البعثي، الإلتحاق بصفوف المقاومة. وحتم أيضا على شرائح عدة من الشعب العراقي الإنخراط في المقاومة، بعد مرحلة الذهول التي أصابتها من جراء سرعة الغزو وهوله.
وهكذا، منذ أن انطلقت المقاومة، انطلقت معها عمليات إرهابية استهدفت البعثة الأممية وكل وجود انساني أجنبي وبعض المواقع الحيوية التي يتواجد فيها الغزاة والمواطنون على حد السواء. فتردد اسم القاعدة بكثرة ولمع اسم الزرقاوي، وبصورة خاصة مع عمليات اختطاف الأجانب وإعدام البعض منهم بالذبح وبعث مختلف مراحل التنفيذ، في أشرطة مسجلة، الى مختلف وسائل الإعلام العالمية.
لا شك وأن جيش التحالف ارتكب أبشع الجرائم في حق الشعب العراقي، وفضاعات سجن أبو غريب التي تعتبر جرائم في حق الإنسانية شهادة على ذلك. والمثير للقرف أن عمليات الإعتداء الجنسي على السجناء والسجينات في هذا المعتقل أصبحت تجوب العالم عبر "أنتارنات"، بين الشواذ. ورغم ذلك، لا يمكن تبرير الإرهاب الذي يأخذ صيغ أعمال "إجرامية" باسم السياسة، يذهب ضحية لها مواطنون عاديون.
والخطر كل الخطر أن مثل هذه الأعمال، رغم وحشيتها، أصبحت تستجلب التعاطف الشعبي، لأنها تأخذ صبغة الثأر من الأعمال الإجرامية التي قام بها جنود الإحتلال وأصبحت تنسب للمقاومة العراقية. لا شك وأن الأعمال الإرهابية تربك الأعداء وتثير فيهم الهلع، لكنها لاتعبئ ولا تشرك ولا تنظم الشعب للمقاومة، باعتبارها أعمال تقوم بها أقلية مدربة. وتظل هذه القلة قلة معزولة عن معنويات الناس التي قد تتراجع بمجرد حدوث تغييرات في الأوضاع الموضوعية وحصول تسويات تجبر المقاومة على تغيير تكتيكها، فتخسر بذلك الجماعات الإرهابية الدرع الذي كانت تحتمي به وتجد نفسها عرضة للتدمير عسكريا. ويكفي أن نشير في هذا الصدد الى عمليات التصفية التي تلحق خلايا القاعدة في السعودية وتلك التي شهدتها التوباماروس في أمريكا اللاتينية والألوية الحمراء في أوروبا والجيش الأحمر الياباني والجماعات الغيفارية والقومية في العالم العربي، خلال السبعينات.
والخطر كل الخطر يكمن في حصول الخلط، لدى الرأي العام، بين المقاومة والإرهاب، بحيث إذا تغير موقفه من الثاني يؤثر بالضرورة على وضع الأولى، وإذا فشل الثاني يذهب الى ظنه أن الأولى هي التي فشلت.
نحن نقف الى جانب المقاومة في العراق والإنتفاضة في فلسطين، بقطع النظر عن الأساليب والأشكال التي تجري بها، لأننا مقتنعون أن كل شعب سوف يجد طريقه الخاصة للتحرر الوطني والإجتماعي والسياسي وسوف يقدم إسهامه الخاص في بناء صرح الحضارة الإنسانية بالسبل التي يرتئيها. ونؤكد أن موقفنا المبدئي، من حق الشعوب في تقرير مصيرها بنفسها ومناصرتنا لها، لا يجعلنا نغفل عن المضامين التي يمكن أن يتحقق بواسطتها التحرر الوطني. لقد أثبتت التجربة التاريخية لحركات التحرر من الإستعمار أن عدم ربط المهمة الوطنية بمهمة التحرر الإجتماعي والسياسي يؤدي حتما الى إقامة نظم دكتاتورية واستبدادية باسم الوطن أوالدين أو أولوية التنمية. لذلك فإن مشاركة حركات، في المقاومة في العراق وفي الإنتفاضة في فلسطين، تحمل مشاريع دينية، في ظل غياب بديل سياسي واقتصادي واجتماعي واضح، من شأنه أن يعرض تضحيات الشعبين العراقي والفلسطيني ونضالهما لخطر العودة الى عصور الإنحطاط والإستبداد باسم الدين.
إن الخطر حقيقي في العراق، فالبيت الشيعي في البصرة احتل مجال ممارسة سلطته بين الناس وعلماء المسلمين السنة، في مثلثهم، احتلوا مجالهم الى جانب شيوخ العشائر، وزيادة على ذلك فقد اقتطعت الفرق الدينية المتطرفة مجالاتها على الأرض التي أجبرت فيها قوات التحالف على التخلي عنها، ونذكر في هذا الصدد أن الفلوجة أصبحت تطبق فيها أحكام الشريعة. وبذلك أصبح من الصعب على أي سلطة في العراق أن لا تأخذ بعين الإعتبار هذا الواقع المستجد في ممارسة الحكم.
لذلك يكون من مصلحة المقاومة العراقية أن تضع خطوط التمايز بينها وبين الحركات الإرهابية وتقدم تقييما موضوعيا لتجربة الحكم البعثية وترسم بديلا وطنيا ديمقراطيا يعالج المعضلات الأساسية للمجتمع العراقي الدينية والإتنية والإجتماعية والسياسية. ومن واجبها الأوكد أن تتمايز مع أنماط الحكم الدينية والعرقية لأنها سوف ترمي بالمجتمع العراقي في أتون الحروب الدينية والأهلية. ويقودنا الإستنتاج المنطقي الى القول أن الدولة العلمانية الديمقراطية تمثل أفضل نمط حكم ودولة قادر على تأطير تناقضات العراق. وبمثل هذا الأفق يمكن القول أن الشعب العراقي قد يجد طريق التحرر الوطني والإجتماعي والسياسي وأنه قد يتجاوز مآسيه وعذاباته وأن لا تذهب تضحياته هدرا.

أي بديل يضمن حقوق الشعب
الفلسطيني الوطنية ويحقق السلام؟

مرت استراتجية الثورة الفلسطينية بمنعرجات وتغيرت عدة. ويعود هذا التغيير الى أسباب منها ما هو موضوعي ذي صلة بظروف النضال الفلسطيني وبضغط الدول العربية المتاخمة لإسرائيل والمضيفة للاجئين، وما هو ذاتي ويتعلق بتأثير تيارات إيديولوجية وسياسية عالمية وبتغيير الخارطة السياسية الفلسطينية على الميدان.
لقد مرت الإستراتيجيا الفلسطينية من رفض قرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة في 1947 والنضال في سبيل استرجاع كامل فلسطين وإجبار اليهود المهجرين على العودة الى بلدانهم الأصلية، الى الدعوة لإقامة دولة علمانية على كامل أرض فلسطين تتعايش فيها مختلف الديانات والأعراق، وذلك مع مطلع السبعينات.
ومنذ أواخر السبعينات ومطلع الثمانينات تعدلت هذه الإستراتيجيا بعض الشيئ، إذ بدأ الحديث عن حق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته طبقا للقرارات الأممية. ونشير الى أن منظمة التحرير لم تقبل خلال هذه المراحل المتعاقبة الإعتراف بدولة إسرائيل، رافعة لاءاتها الثلاثة، لا اعتراف لا تفاوض لا سلام.
وفي مطلع التسعينات تركزت استراتيجية الثورة على إقامة الدولة الفلسطينية على الضفة والقطاع وعودة اللاجئين، الى أن أتت مفاوضات مدريد واتفاقية أوسلو، التي حملت منظمة التحرير على الإعتراف بإسرائيل والقبول بسلطة فلسطينية محدودة في مجال الذي حددته الإتفاقية.
لقد عانت منظمة التحرير ومازالت تعاني من تدخل الأنظمة العربية في شؤونها الداخلية، حتى أن البعض منها باسم "القومية" أو"جبهة الرفض" أو "دول المواجهة" أو"الدول العائلة"(السعودية والخليج النفطي) بعثت حركات فلسطينية تابعة لها تمويلا وتسليحا وجعلت منها طرفا في القرار الفلسطيني، زيادة على الضغط الذي تمارسه مباشرة، والذي تراوح بين المادي والمعنوي وبين التصفية الجسدية والعسكرية للوجود الفلسطيني وإيقاف وتعذيب الإطارات السياسية والعسكرية وملاحقتهم والتنكيل بهم وبذويهم. وإذا أضفنا الى هذا الوضع ما قامت وتقوم به إسرائيل من اغتيالات وإيقافات وملاحقات وتأطير أمني للمجتمع الإسرائيلي وعسكري للأراضي المحتلة إثر حربي67 و73، وإذا أضفنا أيضا الإغتيالات التي استهدفت بعض القادة والمفكرين والتي ارتكبتها حركات إسلامية، نفهم جيدا الأسباب الرئيسية المتعلقة بالعامل الذاتي للثورة الفلسطينية التي حكمت في عدم الإستقرار الإستراتيجي.
لكن ورغم قناعتنا بأن وضع الثورة الفلسطينية يعد من أعقد الأوضاع وأشدها خطورة وارتباطا بالأوضاع العالمية والإقليمية والخاصة بالأرض الفلسطينية، يتشابك فيها الديني والعقيدي والوطني والثقافي والإتني والإقتصادي والسياسي، منها الذي له صلة بالصراع المباشر ومنها الذي يرمي جذوره في التاريخ.
وبالنظر لهذا التعقيد البالغ الدقة والشمولية وحالة ميزان القوى المحلية والإقليمية والعالمية، فإن التمشي الأسلم هو تحقيق الهدف الإستراتيجي على مراحل، هو تقديم نموذج حل قادر على استيعاب مجمل التناقضات القائمة على الأرض الفلسطينية وعلى إقناع الشعب الفلسطيني واليهود بمختلف أوطانهم الأصلية والرأي العام العربي والعالمي، بأن التعايش ممكن والسلام ممكن وتحقق المطامح الوطنية الفلسطينية ممكن. ويتمثل هذا الحل في الدولة العلمانية الديمقراطية التي تقام على كل شبر يتم تحريره من الإستعمار الإستيطاني الصهيوني.
نحن نعارض الحلول الدينية والشوفينية ونساند الخطوات التي تقربنا من الحل العقلاني، بعيدا عن التطرف الوجداني وعن التصورات المثالية التي كلفت الشعب الفلسطيني غاليا وأجبرته على أن يبحث اليوم عن حلول منقوصة ومذلة أحيانا وفي غير صالحه البتة، مقارنة بتلك التي كانت متوفرة بالأمس.
نحن لسنا ضد "حماس" والحركات الإسلامية الفلسطينية لأن مرجعيتها دينية، بل لأنها تدعو الى إقامة دولة دينية على الأرض الفلسطينية ولأنها لم تدرك أن الشعب الفلسطني قد ذاق ذرعا من العبودية والإستبداد باسم الدين، التي كانت تارة باسم المسيحية وأخرى باسم اليهودية وثالثة باسم الإسلام، ولأنها لم تدرك أنه اليوم في حاجة، أكثر من أي وقت مضى، الى التحرر من الإستبداد باسم الدين والى العيش في مأمن من الصراعات السياسية المتسترة بالدين.
نحن ضد"حماس" والحركات الإسلامية الفلسطينية لأنها لا تفرق بين اليهودي كمواطن وبين الأجهزة القمعية- الرسمية وغير الرسمية- للدولة الصهيونية، ولا تفرق، أيضا، بين العمل الإرهابي الإستفزازي والنضال الوطني.
إن خطورة طرح تحرير فلسطين وبناء دولة فلسطينية على أساس ديني، من شأنه أن يحول الصراع الفلسطيني والعربي الصهيوني الى صراع ديني "إسلامي- يهودي". وهو منزلق يطمس جوهر القضية، باعتبارها قضية تحرر وطني، ويكبل الشعب الفلسطيني بأثقال الماضي ويعرقله في سيره نحو التحرر الوطني والإجتماعي والسياسي.
وزيادة على ذلك، ونظرا للتعقيدات التي شهدتها هذه الرقعة من الأرض منذ أقدم العصور، يصبح الحل الأقرب للمنطق الذي بإمكانه إطفاء التناحر بين المعتقدات والديانات والأعراق، الذي يتواصل عبر مختلف الحقب التاريخية، في صيغ وأشكال مختلفة، هو ذاك الذي اهتدت إليه الثورة الفلسطينية في مطلع السبعينات من القرن الماضي، والداعي الى إقامة دولة علمانية ديمقراطية تتعايش فيه الأديان والأعراق على كامل أرض فلسطين. وهو، أيضا، الحل الذي اهتدت اليه الثورة في جنوب إفريقيا أمام الميز العنصري، ولتجاوز الأسس العنصرية والإستعمارية والفاشية التي كانت تقوم عليها دولة البيض، وهو في اعتقادنا الحل الأمثل للقضية الفلسطينية.
إن قوة الدولة العلمانية الديمقراطية تكمن في كونها تثبت الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، حتى وإن كانت منقوصة، وتنفي بمجرد وجودها كل كيان قائم على أساس الإضطهاد الديني أو العرقي أو العقيدي أو على أساس الإستعمار الإستيطاني، وتفتح الطريق أمام حل شامل يحقق إنسانية الإنسان.
وأخذا بعين الإعتبار، أيضا، أن الأوضاع في المنطقة بالغة التعقيد، سواء أكان ذلك، في علاقة بالثقل التاريخي الذي يكبلها أو بالمصالح المحلية والإقليمية والعالمية التي تتجمع فيها، فإنه من الأقوم، وقبل الوصول الى هذا الحل العقلاني والعلماني والديمقراطي، أن تعيش المنطقة مرحلة انتقالية يتحقق فيها جزء من المطمح الوطني الفلسطيني المتمثل في إقامة دولته، في المجال المخصص للسلطة الفلسطينية.
إن هذا الحل، رغم كونه منقوصا ودون ما تظمنته القرارات الأممية، فهو ضروري من أجل الحفاظ على القضية الفلسطينية وإعادة طرحها في إطار تسوية تتوفر فيها الشروط الملائمة لتحقيق الهدف كله، وهو ضروري لحماية الشعب الفلسطيني من الإهتراء المادي والمعنوي وتمكينه من استرجاع أنفاسه واستعادة عافيته.
كما أن هذا الحل، رغم كونه منقوصا، بإمكانه أن يسهم في تهفيت الصراع الديني المتأجج وتحريرالمواطن الفلسطيني من ثقله وجعله أكثر قابلية للحلول العقلانية والعلمانية.
وعندها فقط يصبح بالإمكان، المرور الى مرحلة النضال من أجل إقامة الدولة العلمانية الديمقراطية على كامل أرض فلسطين، تتعايش فيها مختلف الأديان والأعراق دون تمييز. وعندها فقط يصبح ممكنا للشعب الفلسطيني أن يحقق مطامحه الوطنية كاملة ويمر في طريقه الى تحقيق تحرره الإجتماعي والسياسي.



"الشرق الأوسط الموسع وشمال
إفريقيا" مشروع استعماري معولم
للمنطقة العربية

أ- الصراع الأمريكي- الأوروبي على المنطقة العربية
("أمركة" أو "عولمة" المنطقة العربية)

أصبح الصراع على المنطقة العربية صريحا بين أمريكا التي تريد فرض سلطانها الأمبراطوري على النطاق العالمي وبين أوروبا الموحدة وروسيا والصين. فالسياسة الدولية الأمريكية لم تعد تحضى بالتأييد الأوروبي التقليدي منذ بدأت أمريكا تستعد لشن حرب على العراق. إذ عارضت أهم أقطاب أوروبا الحرب وطالبت بعد اندلاعها بإحالة ملف إدراة العراق وإعادة الإعمار على الأمم المتحدة ووقفت ضد مسعى تقسيمه، على أساس عرقي أو طائفي، ونادت باحترام وحدته الترابية، حتى أن وزير الخارجية الفرنسي توجه في الـG8 الى نظيره الأمريكي بالقول "على أمريكا أن تنسحب من العراق وتنهي احتلالها له". وساندت روسيا والصين، عموما، المواقف الفرنسية تجاه السياسة الدولية الأمريكية.
كما عارضت فرنسا، المسنودة بحلفائها الأوروبيين وروسيا والصين، المساندة اللامشروطة التي تنتهجها أمريكا تجاه التصعيد الإسرائيلي واقتحام الأراضي الفلسطينية وإقامة المستوطنات وسياسة إرهاب الدولة التي تنتهجها ونددت بحملة الإغتيالات السياسية والتهديد بها وحذرت من مغبة المساس بالرئيس عرفات.
وعارضت مشروع"الشرق الأوسط الكبير" الأمريكي بكثير من الإنتقادات وجهتها لنزعة التفرد والإملاء والإلتجاء الى القوة قبل الإستيفاء من الوسائل السياسية والديبلوماسية وضغط الآليات الدولية. وكان الرئيس الفرنسي، في قمة الـG8 المنعقدة في سي آيلاند بولاية جورجيا الأمريكية، المعارض البارز للمشروع الأمريكي. فقد أكد أن بلادة لا تقبل فرض "القوالب الديمقراطية الجاهزة" على الدول العربية، وأنها "ليست في حاجة الى مبشرين". وأوضح "أن مبادرة الشراكة بين مجموعة الثمانية والدول المعنية بخطة الإصلاح ينبغي أن لا تفرض فرضا بل أن تكون قائمة على أساس الإختيار الحر". وأضاف بأن "الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي والإحتلال الأمريكي للعراق يمثلان عائقا أمام نجاح الإصلاحات في العالم العربي".
وهو ما يؤكد أن أوروبا أصبحت متحفزة، أكثر من ذي قبل، أمام خطر الهيمنة الأمريكية على المنطقة العربية لما تمثله من تهديد لمصالحها الجوهرية على جميع الأصعدة. واختارت، في معارضتها تلك، الوقوف الى جانب قضايا الشعوب، تماما كما كانت فعلت أمريكا من قبلها في مواجهتها للقوى الإستعمارية الأوروبية. وهذا يعني أن الخطاب الأوروبي الراهن ديماغوجي وامبريالي. ومن السذاجة السياسية المراهنة عليه والتعويل على أصحابه في النضال ضد الإستعمار الأمريكي البريطاني للعراق أو ضد حملات الإبادة الصهيونية التي تستهدف الشعب الفلسطيني أو في النضال ضد الدكتاتورية. ومن البديهي أن هذه المعارضة لا تعني البتة الدفاع عن القضايا الوطنية للشعوب ولا عن الديمقراطية، الهدف منها هو حماية المجال التقليدي لفرنسا والمصالح الجوهرية الأوروبية.
ومن البديهي أن مثل هذه الإختلافات في الأغراض والمصالح بين أمريكا من ناحية وأوروبا الموحدة وحلفائها من ناحية أخرى، تسمح للشعوب بالتحرك في ظل ظروف أنسب لتحقيق أهدافها القريبة والجوهرية.
لقد فشلت أمريكا في تثبيت أقدامها في العراق وعجز شارون على إطفاء الإنتفاضة، ولم يمنعها ذلك من التقدم بمشروع "الشرق الأوسط الكبير"، الذي أرادت أن تضع كامل المنطقة الممتدة من أفغنستان الى المغرب الأقصى تحت سيطرتها دون منازع، للنظم القائمة وطالبتها بإدخال تعديلات اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية وتعليمية تتماهى معه، ومنحتها مهلة محدودة للتنفذ.
وفرضت أمريكا على الدول العربية مناقشة "الإصلاحات المقترحة" في القمة المنعقدة في تونس، خلال الأسبوع الأخير من شهر ماي المنصرم، مما جعل أقطاب الرجعية العربية تتعرض الى ضغط التدخل الأمريكي السافر، في المنطقة، الذي قد يترجم بغزو عسكري يؤدي الى الإطاحة بها وتعويضها بمن هم أكثر طوعية وتبعية- والمثال العراقي يزعجها-. وتتعرض أيضا الى ضغط الجماعات الدينية المتطرفة والإرهابية ومراكز السلطة الدينية والطبقات المشدودة الى الماضي، وعلى الأخص منها ما يزيد عن العشرة آلاف أمير وأميرة، الذين يعيشون على نفقات الدولة، كي تبقى الأوضاع على ما هي عليه، باعتبارها الضامن لمصالهم.
إنه لمن الأكيد أن للشعوب مصلحة في الحرية والديمقراطية وفي التداول على السلطة وفي احترام حقوق الإنسان. ومن المثير للإستغراب، ليس أن تخدع الشعوب لما تدغدغها أمريكا عن طريق أحلامها وحاجاتها الملحة ورغباتها الجامحة، بل أن تنطلي الحيلة على النخب وأن يصبح بعض الزعماء السياسين يحثون الدول الإمبريالية على التدخل في الشؤون الداخلية للبلدان العربية ويشرعون غزو العراق بدعوى التخلص من نظام صدام حسين الدكتاتوري، باسم الديمقراطية وحقوق الإنسان وباسم البند الثاني من اتفاقية الشراكة.
إن الشعوب العربية تدرك بحسها ومن خلال تجربتها أن الحرية الممنوحة من قبل أمريكا أوغيرها من الدول الإمبريالية، ليست سوى عبودية استعمارية، وأن شعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان سرعان ما تترك مكانها للمجازر والتقتيل والإعتداء على الحرمات وشتى أنواع الإنتهاكات، تماما كما كان الشأن مع الحملات التبشيرية التي مهدت لمرحلة الإستعمار المباشر.
لذلك فهي تعول على ذاتها وعلى مناصرة قوى التحرر في العالم من أجل تحقيق مطالبها وحمل حكامها على تلبيتها دون أن تمد اليد للإمبريالية الأمريكية أو غيرها من الإمبرياليات باسم العولمة أو اتفاقية الشراكة أو الشبكة الدولية. ولن تخدعها المناوشات التي حصلت حول "الإصلاحات" التي ناقشتها القمة العربية في تونس، فهي تعلم أنها ظرفية وهي لا محالة زائلة.
لقد حصل خلاف حول "الإصلاحات"، وتحركت الديبلوماسية في اتجاه أوروبا وأمريكا في نفس الوقت، وحصل اتفاق في النهاية، تضمنه البيان الختامي للقمة العربية وفق بين جميع الأطراف وجعل أمر تطبيقها موكولا للظروف الخاصة لكل نظام ولكل بلد على حده، وهو الوفاق ذاته الذي خرجت به مجموعة الثمانية في قمة سي ايلاند.
واضطر الحكام العرب على الإعلان عن قبولهم "بالإصلاحات" والإلتزام بإدخالها على نظمهم. وقبلت أمريكا بالمقترحات الأوروبية وتراجعت عن مشروعها الأصلي"الشرق الأوسط الكبير" الذي تقدمت به لقمة الثماني وللنظم العربية قبل انعقاد قمة تونس.
ورغم أن مبادرة الشراكة "لإصلاح" الشرق الأوسط وشمال إفريقيا أعلنت أنها قائمة على "الإختيار الحر" وعلى "احترام التمشي الخاص بكل بلد"، فقد أعادت صياغة أشكال الهيمنة والتبعية في المنطقة العربية، إذ أصبحتا جماعيتين وتخول للمجموعة المهيمنة التدخل في شؤون المجموعة المهيمن عليها عن طريق النظم القائمة ومكونات المجتمع المدني غير الحكومية والخواص، وذلك في جميع المجالات الإقتصادية والإجتماعية والسياسية والثقافية والإعلامية وغيرها.
وخطر هذه الصياغة يكمن في كونها تضع التدخل الإمبريالي المعولم في مقام التعاون مع مجموعة البلدان التابعة، من أجل التقدم والإرتقاء الحضاري. وخطرها يكمن أيضا في أنها تضعف الحس الوطني وتجعل من الهيمنة والتبعية واقعا طبيعيا يدخل في إطار أن شعوبا اجتهدت وعملت فتقدمت وأخرى ساد فيها الكسل والتواكل فتخلفت.


ب- مبادرة الشراكة من أجل "إصلاح الشرق الأوسط وشمال إفريقيا"والسوق العربية الموحدة

أطلقت مجموعة الثمانية مبادرة الشراكة "لإصلاح الشرق الأوسط وشمال إفريقيا" خلال اجتماع قادة البلدان الصناعية السبع الكبرى وروسيا، بمنتجع سي ايلاند في ولاية جورجيا بالولايات المتحدة الأمريكية في النصف الأول من شهر جوان الماضي، والذي شارك فيه رؤساء الجزائر وأفغنستان والبحرين والأردن وتركيا واليمن الى جانب الرئيس العراقي المنصب من قبل الإدارة الأمريكية .
وأكد المجتمعون أن المبادرة هي "شراكة من أجل التقدم ومستقبل مشترك" وستقوم على "تعاون حقيقي مع حكومات المنطقة ومع ممثلي القطاع الخاص والجمعيات غير الحكومية من أجل التنمية السياسية والإقتصادية والإجتماعية".
ولوضع هذه المبادرة حيز التنفيذ أقر المشاركون جملة من الآليات، من بينها "منتدى المستقبل"، و"مبادرة للإعتمادات الصغرى"، و"تسهيلات لتطوير الإستثمار الخاص في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا"، و"شبكة جهوية للتمويل" التي "تجمع مؤسسات التنمية المنتصبة في المنطقة والمؤسسات المالية العالمية من أجل تنسيق أفضل بين البرامج"، وفي النهاية "إرساء مجموعة عمل لدراسة المشاكل المتعلقة بالتجارة والإستثمار واقتراح الحلول الملائمة لها".
ودعت الخطة الى زيادة فرص التمويل لأصحاب المؤسسات الصغرى والمتوسطة ووعدت بتقديم اعتمادات صغرى، لمساعدة أكثر من مليوني رب عمل محتمل للخروج من الفقر وتمكين أكثر من 250 ألف شاب من تكوين مهني راق بالتعاون مع مؤسسات من مجموعة الثمانية وتوفير إمكانية رفع الأمية على 20 مليون شخص وتأهيل وإعداد100 ألف مدرس الى غاية 2009.
ورصدت مجموعة الثمانية من أجل تحقيق الإصلاحات في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا 100 مليون دولار.
وتتلخص أهداف هذه المبادرة في " دعم جهود المنطقة من أجل تحقيق الإندماج الإقتصادي وتشجيع التبادل الجهوي وتنمية إمكانياتها التجارية في السوق العالمية وتسهيل انخراطها في المنظمة العالمية للتجارة الى حدود موفى 2010 بالنسبة لشمال إفريقيا و2013 بالنسبة للشرق الأوسط.
تلك هي الأهداف العامة لمشروع الشراكة "لإصلاح الشرق الأوسط وشمال إفريقيا" الذي تبنته قمة الثمانية والذي عوض مشروع "الشرق الأوسط الكبير" الأمريكي.
وإذا حاولنا البحث في دواعي هذا الإهتمام غير العادي بالمنطقة العربية وبالشرق الأوسط، من قبل الثمانية الكبار، ندرك أنها لا تتعلق بالإصلاح الإقتصادي والإجتماعي والسياسي والإرتقاء الحضاري بل بالمصالح النفطية والجيو- سياسية والإستراتيجية التي تمثلها المنطقة. ولولا هذه المصالح لما غامرت أمريكا باحتلال العراق وواجهت عزلة دولية لم تعرفها منذ نهاية حرب الفيتنام ولما عرف المعسكر الإمبريالي استقطابا بين الزعامة الأوروبية من جهة وأمريكا وبريطانيا العظمى من جهة.
ويمكن أن نستأنس بإشارة ديبلوماسي من دول الثمانية معارض لمشروع "الشرق الأوسط الكبير" الأمريكي، للكشف عن الأغراض الحقيقية لمختلف المشاريع الإمبريالية تجاه المنطقة العربية، حين قال إن "الشرق الأوسط الكبير ليس سوى غطاء لوجود عسكري من أجل ضمان امدادات النفط".
لذلك فإن الإعتقاد بأن الهجوم الإمبريالي، الفردي والجماعي، السلمي والعسكري، على المنطقة العربية ليس حرب صليبية على الإسلام أو صراع حضارات أو مجرد عداء قومي للعرب، هو إغفال ومواراة للمسألة الأساسية التي تقف وراء الأحداث الكبرى الجارية على مسرح التاريخ العالمي والعربي، وهي مصالح مختلف القوى الفاعلة في الميدان.
وبما أن الإحتكارعلى المستوى العالمي أضحى أساس الحياة الإقتصادية، في عالمنا المعاصر، فمن الطبيعي أن يبحث عن أسواق واسعة ويدفع الى قيامها، إقليميا أو قاريا أو قوميا أو حتى عالميا في العديد من المجالات.
لم يكن ظهور أوروبا الموحدة، بالـ25 دولة دون النظر الى قائمة الترشح لعضويتها، يهدف فقط الى توسيع السوق الأوروبية لتشمل القارة بأكملها وتحويلها الى قاعدة ارتكاز للإحتكارات العالمية ذات المنشأ الأوروبي، بل الى دفع عملية إنشاء احتكارات أوروبية ذات مصالح عالمية تكون قادرة على منافسة احتكارات الأمبراطورية الأمريكية التي بصدد بسط نفوذها على العالم وإعادة صياغته على صورتها.
في حين أن بعث مناطق للتبادل الحر حول أحد الأقطاب الثلاثة أمريكا وأوروبا واليابان ليس سوى رسم للمجال الحيوي لكل قطب. وتأطر اتفاقيات الشراكة هذا الإستقطاب الثلاثي. ونشأت تجمعات، في تفاعل مع هذه الأقطاب، لها مميزاتها الخاصة مثل مجموعة بلدان أمريكا اللاتينية وفينيزويلا التي تبحث عن صياغة علاقة تكافئ مع العمالقة في إطار العولمة.
أما الجديد بالنسبة للمنطقة العربية فهو أن الإحتكارات العالمية والدول العظمى هي التي بصدد دفع النظم القائمة على إدخال إصلاحات جوهرية إقتصادية واجتماعية وسياسية تأهلها لإنشاء سوق موحدة ذات جناحين الشرق الأوسط وشمال إفريقيا مع تشجيع التبادل الحر بين مختلف البلدان.
وقد أدت هذه العوامل مجمعة الى التعامل مع المنطقة العربية على غير ما كانت تتعامل به القوى الإمبريالية في الماضي. لأن إطار بسط نفوذها كان يتمثل في أن تخضع كل بلد على حده، وهو إطار كان يتناسب ومصالح "الإحتكارات الوطنية" المتقاربة أو المتنافرة للبلدان الرأسمالية المتقدمة. أما اليوم فقد أضحى النفوذ الإمبريالي، جماعيا أي في إطار أحجام عملاقة. وفي هذ السياق يتنزل مشروع "الشرق الأوسط الكبير" ومبادرة الشراكة "لإصلاح الشرق الأوسط وشمال إفريقيا"، وهي صياغة تتناسب ومصالح وحجم"الإحتكارات العالمية".
تلك هي النقلة النوعية في الأوضاع الدولية التي قد تحكم على البورجوازيات العربية وعلى النظم القائمة إعادة صياغة مصالحها في إطار المنطقة العربية ككل. وهي تعلم أنها إن أبت وتمسكت بمواقعها القديمة، فسيكون مآلها لا محالة الخسران وتضطر الى ترك مكانها لشرائح أخرى أدركت اللحظة التاريخية التي تعيشها ولها من القدرة على أن تأخذ على عاتقها مهمة الإستحواذ على المصالح الجديدة التي جعلتها العولمة "في متناولها" وأن تنخرط في إطار ما تقتضيه مصالح العمالقة. هذه المصالح التي تتناسب والتجمعات الكبرى، سواء أكانت إقليمية، مغاربية ومشرقية، أو قومية في إطار أمة عربية متحققة. وقد تحدث صياغات أخرى، لا يمكن التكهن بها، تفرضها أوضاع دولية محددة أو يفرضها نسق تطور الصراع الطبقي والوطني. لذلك نحن مدعوون الى عدم التقيد بالإفتراضات النظرية والسياسية، الإستراتيجية والتكتيكية، المحددة بصورة قبلية، لأن الحياة أعقد وأثرى من جميع الإفتراضات وأن التغييرات في ميزان القوى ليست محكومة بالوعي أو الإرادة فقط، بل وأيضا بالقوانين الموضوعية لتطور الصراع الطبقي محليا وإقليميا وعالميا.
إن ضغوطات "مبادرة شراكة الإصلاح"، رغم المرونة البادية عليها، قد تفرض على بورجوازية المنطقة التوجه الى بعث سوق موحدة للإستهلاك والخدمات والطاقة وبصورة خاصة للنفط والغاز، وللصناعات التحويلية والصناعات المنقولة كفروع للشركات العملاقة وقطاعات الإنتاج المرتبطة بحاجيات الأسواق المحلية.
ولا بد أن نشير الى أن وحدة السوق العربية تحول بورجوازية المنطقة الى عملاق، طيع وخاضع للإحتكارات العالمية يتمتع بقدرة هائلة على المسك بشعوبها بقبضة من حديد لضمان المصالح العامة للبورجوازية المعولمة.

ج- الدول القطرية في ظل"مشروع الإصلاح"
والمسألة القومية العربية

يلاحظ المتتبع للتاريخ السياسي والإجتماعي للشعوب العربية أن الحدود التي قامت عليها الدول القطرية، في أغلب الحالات، ليست وليدة التقسيم الإستعماري أو الصراعات المحلية فقط، بل ترمي بجذورها في التاريخ، باعتبارها تشير الى أنها ناجمة عن الإندماج التاريخي لثقافات وأعراق وشعوب مختلفة ومتعددة في الحضارة العربية.
لقد تمت المحافظة على الحدود لأنها كانت الوعاء
الجغر- تاريخي- ثقافي الدال على مسارات الإندماج المختلفة وعلى المستوى الذي بلغه التفاعل مع حضارات أخرى.
وزيادة على ذلك فإن الحدود تعبر على وجود اختلافات أساسية في الأنماط المجتمعية والسياسية القائمة تفرق بين مختلف الشعوب المندمجة في الحضارة العربية. وقد أصلت هذه الإختلافات الإختيارات الإقتصادية والسياسية والإجتماعية والثقافية للنظم التي قامت على إثر الإستقلال.
إن ظهور الدول القطرية يعبر عن المصالح الطبقية التي نشأت وتطورت في إطار الحدود المرسومة تاريخيا، باعتبارها مجال حركة وتعاون وتصارع وتآلف مجموعات بشرية دون غيرها. وبما أن الدولة تحمي مصالح الطبقات السائدة اقتصاديا، فإنها تكون أشد حرصا على حدود القطرية ولا تكترث بالتطلعات الوطنية والقومية لشعوبها، بل هي مستعدة للتنازع والتحارب مع الدول الشقيقيقة المتاخمة لها على الحدود. ونشير في هذا الصدد الى الخلاف حول قضية الصحراء الغربية بين المغرب الأقصى والجزائر، وبين مصر والسودان حول منطقة حلايب، وبين السعودية والإمارات حول واحة البريمي، وبين السعودية وقطر حول منطقة الخفوس، وبين قطر والبحرين حول جزر حوار، وبين العراق وإيران حول شط العرب، وبين إيران والبحرين حول جزر أبو موسى وطنب الكبرى وطنب الصغرى، وبين تونس والجزائر حول العديد من النقاط الحدودية التي تمت تسويتها، وبين تونس وليبيا حول الجرف القاري، وبين العراق والكويت حول الكويت.
وتؤكد هذه الخلافات أن المصالح القطرية للطبقات السائدة والمصالح الإمبريالية المرتبطة بها، هي التي وقفت عائقا جديا أمام أي محاولة للمضي في اتجاه المصير المشترك للشعوب العربية وتحقيق وحدتها القومية، أي بناء أمتها الموحدة.
ومما يزيد الأمر تعقيدا فإن الإختيارات السياسية والإجتماعية والثقافية المختلفة ودرجات التقدم والإرتقاء الحضاري، أصبحت تشكل، هي الأخرى، عوائق أمام التقارب، في اتجاه الوحدة.
وقد نتج عن التطورات الآنفة الذكر وجود نظم مختلفة واحدة قائمة على القبائل والعشائر وعلى الإستبداد الملكي والعسكري تستمد شرعيتها من البترودولار ومن المقدس ومن علاقاتها الوطيدة بالولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا والإتحاد الأوروبي، مثل السعودية والإمارات الخليجية والسودان (هذا على سبيل الذكر لا الحصر) وأخرى قطعت خطوات في اتجاه العصرنة، إذ هي قائمة على المؤسسات، رغم شكليتها، وعلى الإقتراع العام، رغم إفراغه من دوره في التعبير عن إرادة الشعب في اختيار من يمثله ومن يحكمه، وعلى القانون(الدستوري والتشريعي)، رغم كونه يمثل أحد أسس الدكتاتورية والقمع وانتهاك حقوق الإنسان، مثل تونس والجزائر ولبنان.
وبالنظر لهذه الإختلافات، يصبح من الوهم الإعتقاد أولا في تحقيق الوحدة دفعة واحدة، بدعوى أن الحدود صورية وأنها من صنع الإستعمار وأن الوحدة مطمح الشعوب العربية وثانيا في أن تقدم النظم العربية عن طوعية وبملئ إرادتها على الإنخراط في مبادرة"الإصلاح" أو أن تسير تدرجيا في اتجاه الوحدة، رغم أن تطور الأوضاع الدولية يدفع في هذا الإتجاه بكل قوة.
لقد وقفت الدول الرأسمالية المتقدمة، فيما مضى، وراء محاولات الوحدة بين مصر وسوريا وبين مصر وسوريا وليبيا وبين مصر والسودان وبين تونس وليبيا لتعارض مصالحها في البلدان المعنية بالوحدة ولخشيتها من الإيديولوجيا الدافعة لهذه الوحدات. وهي اليوم، لما تعاظمت مصالحها اتجهت الى البحث عن فضاءات أكبر، فأصبحث تحث النظم العربية التابعة لها على "الإصلاح" و"الوحدة". في حين ظلت هذه الأخيرة منكمشة ومنزوية لم تدرك التغيرات العالمية ولا مصالحها القومية الخاصة.
وكما هو معلوم، لم تقدم البورجوازية العربية، على أي إصلاح، إلا مكرهة، وهي اليوم مكرهة أمام الإملاءات الأمريكية المباشرة لوضع مشروع "الشرق الأوسط الكبير" حيز التنفيذ، رغم غطاء الحرية الكاذب الذي أضحى يتخفى به، لما أخذ صيغة معولمة تحت اسم مشروع الشراكة "لإصلاح الشرق الأوسط وشمال إفريقيا" .
وضعت أمريكا مشروع "الشرق الأوسط الكبير" على طاولة البحث في القمة العربية، قبل عرضه على مجموعة الثمانية، آملة في الحصول على نتائج إيجابية قبل انعقاد قمة سي آيلاند كي تحول مشروعها الى أمر واقع، خاصة وهي تعلم أن فرنسا وحلفاءها لهم تحفظات جدية عليه. وحاولت الظهور بمفردها في مقام النصير للشعوب العربية والمدافع عن طموحاتها وتطلعاتها، موجهة أصبع الإتهام نحو النظم القائمة عليها في شأن تخلفها بغاية تضليلية بحتة لتمرير غزو العراق على أنه تحرير للشعب العراقي من الدكتاتورية والتكالب الصهيوني على الفلسطينيين مناورات يحيكها ياسر عرفات المتحالف مع الإرهابيين.
وقد تجد النظم الغارقة في الرجعية نفسها في وضع لا تحسد عليه، أمام الضغط الأمريكي وأن يجد نظام الحكم في بلادنا نفسه في وضع مريح نسبيا، لتوافقه مع الإصلاحات المطالب بها غيره، باستثناء الإعلام وحقوق الإنسان. ومع ذلك يكون من السذاجة بمكان التعويل على "الضغط" الأمريكي لتحقيق "إصلاحات" سياسية على نظام الحكم تضمن الحريات العامة والفردية وترتقي بالحياة السياسية الى مستوى أعلى، لأن مشروع "الشرق الأوسط الكبير" أو "الشراكة لأصلاح الشرق الأوسط والمغرب العربي" وما تضمناه من حديث عن الديمقراطية وعن التقدم الإقتصادي والإجتماعي والحضاري لشعوب المنطقة، فإنهما لا يخرجان عن الإطار السياسي لتأصيل مصالح الرأسمال العالمي فيها. وعلى هذا الأساس فإن الدول الكبرى ليست مستعدة البتة لترك حلفاءها في مهب الريح، بل هي دائمة اليقضة لحمايتهم، طالما هم باقون على العهد معها، ولا تتركهم يلاقون مصيرهم إلا متى تيقنت أن الأوضاع انفلتت ولم تبق أمامها إمكانية غير التخلي عنهم.
لكن ما ينبغي التنبه إليه هو أن الثمانية الكبار بتدخلها المباشر في الحياة الإقتصادية والإجتماعية والثقافية والسياسية، سواء أكان ذلك عن طريق برامج الإصلاح الهيكلي أو البنك العالمي وصندوق النقد الدولي والمنظمة العالمية للتجارة والسوق المالية أو عن طريق البورصة أو من خلال مشاريع "الإصلاح"، هي بصدد إضعاف دور الدولة الذي كانت تلعبه في المرحلة التي تلت الإستقلال، وبالتالي هلهلة البورجوازية "القديمة" التي لم تقدر على مواكبة نسق التطورات التي يشهدها العالم وتوفير الظروف الملائمة لولادة طبقة جديدة تأخذ على عاتقها مصالح المنطقة برمتها.
وبما أن الشركات "متعدية" و"متعددة" الجنسية تمثل اليوم العامل الأساسي في الإقتصاد العالمي وأهم وسائل العولمة وآلياتها، تعمل دوما على تجاوز الحدود التي تعزل الأمم والأقطار وعلى إزالة الحواجز الجمركية والقيود السياسية والنقدية والمالية والإستثمارية التي كانت تفرضها الدولة فحررت حركة رأس المال والبضاعة وأزاحت جل العراقيل التي تقف دون تدفق المعلومة. وبذلك تكون قد سلبت الكثير من سلطات الدولة التي كانت تمارسها ضمن حدودها السياسية.
ورغم هذا التدخل المزدوج الذي من شأنه أن يغير في مجال نفوذ الدولة ودورها في المجتمع فإنه لم يمس من دورها الردعي والقمعي تجاه المجتمع، وهذا الدور من السهل الخروج به من إطاره القطري إلى إطار أوسع قومي أو إقليمي.
لكن هذه التطورات لم تحدث التغيير نفسه في البلدان الرأسمالية المتقدمة والبلدان التابعة، بل جاءت لخدمة الأولى على حساب الثانية دائما. وذلك، لأن رساميل الدول الكبرى هي التي تسيطر على معظم أسهم الشركات المتعددة الجنسية، مما يعني أن جل الفائدة تعود الى دول المنشأ في حين تجبر الدول الضعيفة على تبعية أكثر سفورا، والبند الثاني من اتفاقية الشراكة مع الإتحاد الأوروبي ومشروع الشراكة "لإصلاح الشرق الأوسط وشمال إفريقيا" شاهدان على ذلك.
غير أن هذه التغييرات بصدد جعل الدولة القطرية خاضعة أكثر من ذي قبل لتحكم الدول الكبرى وعلى الأخص منها الولايات المتحدة الأمريكية التي أضحت تتصرف كأمبراطورية عالمية. وبما أن مصالح الكبار تتجه على الأقل في المرحلة الراهنة نحو بعث أسواق إقليمية أو قومية تماشيا مع مصالحها الضخمة، فإن هذا التوجه يمثل الإطار الموضوعي الجديد الذي يطرح ضمنه النضال القومي العربي ويوفر فرصة سانحة للشعوب العربية من أجل تحقيق مطمح وطني يتمثل في الوحدة العربية على الشاكلة الأوروبية أو الألمانية أو اليمنية. ويمكن الخروج بهذه الوحدة من إطارها الفوقي لتتحول الى وحدة للطبقة العاملة والشعوب.
ليس في الأمر شك أن أهداف الشعوب العربية ومصالحها تختلف عن مصالح البورجوازية المعولمة أوالمأمركة. وبقطع النظر عن اختلاف المصالح، فإن ضغط العولمة على البورجوازية القطرية في اتجاه التجمع في وحدات إقليمية أو قومية من شأنه أن يخدم موضوعيا مطمح الشعوب العربية في الوحدة. إن الرأسمالية كلما تطورت وتقدمت تنضج الظروف الموضوعية لتحقق مطامح الطبقة العاملة والشعوب في التحرر الوطني والإجتماعي. كما أن تطور الرأسمالية يوحد الى أقصى درجة ممكنة الأهداف الوطنية والديمقراطية والإشتراكية.
إن المهمات الديمقراطية والوطنية، رغم كونها مهمات بورجوازية، لم يعد إنجازها موكول للبورجوازية وحدها، بل أخذتها الطبقة العاملة على عاتقها، في صيغ راديكالية. وتأخذ هذه المهمات عند تحققها صيغة إشتراكية، بقطع النظر عن الإسهام الذي تقدمه البورجوازية في هذا الصدد، والذي تتعامل معه الطبقة العاملة بكل إيجابية.
وإذا قبلنا بأن الأمة تخضع لقوانين تطور الظواهر التاريخية يصبح ممكنا القبول بطرحها ومعالجتها طبقا للظروف التاريخية الخاصة التي تمر بها في كل طور من أطوار تطورها. وفي هذا السياق نفهم مراحل تشكلها الطويلة كقومية بظهور خصائصها الأساسية اللغة ومجال تحرك الأقوام المنضوية في إطارها والثقافة والتكوين النفسي. ثم مرت الى طور أعلى لما صهرت البورجوازية هذه الخصائص في إطار كيان موحد قضت فيه على التجزئة الإقطاعية فوحدت مختلف أجزاء مجال حركة القبائل والأقاليم والإقطاعات التي تحمل الخصائص ذاتها وكونت سوقا خاصة موحدة أيضا ومركزت الحياة الإقتصادية والسياسية والثقافية. وفي ظل هذا الطور ظهرت في أوروبا دول قومية، أي أمم، ودول متعددة القوميات، أي أمم بها أقليات قومية.
ولم تتبع الشعوب التي لم تدخل عصر الرأسمالية التنافسية النسق الذي شهدته أوروبا وأمريكا مما عاق تطورها كأمم وظلت شعوبا وقبائل وأعراق متنافرة. ومع ذلك فإن البلدان الآسيوية التي أخذت ملامح أمم، حتى قبل أن يصبح نمط الإنتاج الرأسمالي نمطا مهيمنا في المجتمع، يعود الى وجود دولة مركزية قوية، وهي من خصائص نمط الإنتاج الآسيوي، التي تصهر الخصائص القومية في أمة موحدة(الصين، على سبيل الذكر).
لم تتبع الشعوب العربية أيا من المسالك الآنفة الذكر، بل كان لها تطورها الخاص الذي يعد أكثر تعقيدا. فهي لم تتوحد في إطار دولة مركزية واحدة إلا في ردحات قصيرة من تاريخها الأموي والعباسي. ومنذ أن انفصلت الولايات العربية عن الأمبراطورية العثمانية، ركزت القوى الإستعمارية أطماعها عليها فتقاسمتها وأعادت تقسيم بعضها. وزيادة على ذلك لم تظهر بورجوازية عربية لها من الطموح والقوة ما يساعدها على توحيد السوق في مجال تحركها ولا على مركزة الحياة الإقتصادية والإجتماعية والسياسية والثقافية والتشكل في دولة قومية، أي أمة.
إن عدم اتباع أحد هذين المسارين التاريخيين جعل الشعوب العربية عرضة للأطماع الإستعمارية والإمبريالية مما فرض عليها المزيد من التقسيم والتشتت والتباعد، وهو ما يفسر وجودها كأمة في طور التشكل أو أمة غير متحققة. لكن الإمبريالية التي كانت تدفع بالأمس في اتجاه التجزئة، تدفع اليوم، في ظل العولمة في اتجاه التجميع والوحدة. وبذلك أصبح ما لم يكن ممكنا تحقيقه بالأمس إلا عن طريق الثورة، في متناول الشعوب، بطرق إصلاحية.
وأخذا بعين الإعتبار هذا المعطى الجوهري في النقلة التاريخية التي تشهدها الأوضاع، فإن إمكانية تجاوز الدولة القطرية أصبح ممكنا في اتجاه دولة قومية إذا ما توفرت لها الشروط السياسية اللازمة. وفي هذا السياق، أيضا يكون من واجب الطبقة العاملة والشعوب الخروج من إطار الأفق القومي الضيق للمهمة الوطنية بإعطائها آفاق اشتراكية. كما يكون من واجبها أيضا الخروج من تحت مظلة الإحتكار العالمي، بقطع النظر عن الإطار الذي يتمثل فيه. وهما مهمتان يعسر إنجازهما إذا لم يأخذ اليسار على عاتقه مهمة تجديد ذاته وإعادة صياغة مبادئه وبرنامجه وسياساته والتقدم الى الشعب في إطار موحد يقطع مع التناحر والتنافر ويسرع بخروجه من الإطار القطري الى الإطارين القومي والأممي.
إن المخرج الذي نحن بصدد بيانه نستخلصة من طبيعة التناقض الجوهري الذي يقابل الطبقة العاملة والشعوب ببورجوازية العولمة أو الأمركة التي تآلفت مصالحها مع البورجوازيات المحلية. وبذلك نجد أنفسنا أمام صيغ ثلاث من الوحدة :
الأولى فوقية تحكمها المصالح الضيقة للفاعلين الإقتصاديين أصحاب القرار تتماشى والمصالح العليا للرأسمال المعولم. وهذا النوع من الوحدات هو الذي يتحقق بسرعة باعتباره مرتبط بقرار سياسي للحكام، كما الشأن بالنسبة للوحدة الألمانية والأوروبية واليمنية.
والثانية قد يتحقق بثورة عارمة زاحفة من المحيط الى الخليج، تقارب الحلم التاريخي الذي يختزن في طيات الذاكرة التاريخية الجمعية للشعوب العربية من أيام الغزوات التوسعية الزاحفة الأولى، أي في مرحلة تحول الدولة العربية الناشئة الى امبراطورية، أو تلك التي تتناسب مع "المسيرة الكبرى" في الوجدان الثوري لشباب الستينات والسبعيات. وهذا النوع من الوحدة من الصعب أن يشهد النور، لأنه لا يأخذ بعين الإعتبار الأوضاع الموضوعية والذاتية للظواهر التاريخية.
والثالثة تتحقق من التحت، أيضا، أي لما تتبناها الطبقة العاملة والشعوب وتعمل على تحقيقها أخذا بعين الإعتبار معطيات الواقع كما هي، تراعي فيها نضج الأوضاع الموضوعية والذاتية للتحولات النوعية المأملة. وهي مسائل تحكمها التطورات الخاصة التي يعرفها كل مجتمع وكل شعب وكل نظام، في ظل الدولة الإقليمية، ويستغل الظروف المواتية عالميا لتجوازها. وهو حل قد يطول أو يقصر بحسب التطور الذي قد يحدث في الواقع. فالبورجوازيات القطرية التي تقف حائلا أمام الوحدة قد تجد نفسها مكرهة على القبول بها، لما تفرضها عليها العولمة أو الأمركة. عندها يصبح ممكنا تجاوز العوائق الأخرى بيسر ويسهل الخروج من النطاق القطري الى المستوى القومي. ويفتح هذا التغيير مجالات أرحب أمام الشعوب لدعم سيرها من التحت والتقدم بسرعة لبلوغ أهدافها.
إن الوضع المستجد على النطاق العالمي والعربي والمحلي يجعل القوى الثورية والديمقراطية والإشتراكية والتقدمية في حاجة الى تكتيل جهودها من أجل بلورة تصورات ملموسة إستعدادا للتطورات القادمة، كي تتحمل مسؤولياتها في توضيح طريق الخلاص أمام شعوبها.
وخاتمة القول هي أن نمضي قدما ودون تردد في بلورة مواقفنا ومفاهيمنا ومبادئنا وتوجهاتنا الفكرية والسياسية وبدائلنا المجتمعية وأن نكون على قدر من الجرأة في تقييماتنا للتجربة السابقة عالميا ومحليا وأن نعي أن المسألة الوطنية أصبحت في ظل الهجوم الإمبريالي الصهيوني أكثرإلحاحية في النضال اليومي للقوى الديمقراطية والوطنية والإشتراكية. لذلك علينا أن نجد الصياغات الملائمة لإدراجها في مختلف واجهات العمل والقطاعات كي نحولها من مشاغل نخبوية الى مشاغل الشارع. وهكذا يمكن للوعي الطبقي الذي يدركه العامل وأن يأخذ أبعاده الشمولية ويتخلص من ثقل الإيديولوجيا البورجوازية في صيغتها القومية أو الإقليمية فيظهر البديل الإشتراكي في كليته.


تونس 25 جويلية 2004



المراجع المعتمدة

- سمير أمين، ما بعد الرأسمالية المتهالكة،
دار الفرابي
شركة المطبوعات
اللبنانية- لبنان
منشورات ANEP الجزائر
د. محمد علي الفرا، العولمة والحدود، عالم
الفكر
المجلد 32 أفريل 2004
- د. محمد جابر الأنصاري، الحدود بين العرب :
لتجاوزها … لا بد من
تحديها،
عالم الفكر، المجلد32
أفريل2004

- عائدة الهاني ، أضواء على أصول الشعب
التونسي العرقية وظروف
استعرابة،
دار بيرم للنشر

- الوثائق الخاصة بقمة سي آي لاند حول الشراكة "لإصلاح الشرق الأوسط وشمال إفريقيا"
- جون أفريك ولموند ولكوريي أنتارناسيونال (ماي وجوان وجويلية)

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire