lundi 13 juillet 2009

أزمة الحركة النقابية

وسبل تجاوزها



الشيوعيون الديمقراطيون

تونس في 1 ماي2004








هجوم رأس المال على الطبقة العاملة
وعدم وضوح البديل

يشن رأس المال العالمي والمحلي هجوما مركزا على الطبقة العاملة والشعوب، بدأه ببرامج الإصلاح والتأهيل وإعادة الهيكلة والعودة الى حقيقة الأسعار وأنهاه بتطبيق الإختيارات الإقتصادية والإجتماعية والسياسية والثقافية النيوليبيرالية. فألحق أضرارا بليغة باقتصادات عموم البلدان العربية ودفعها للدخول في أزمات حادة كان الشعب الكادح ضحيتها الأولى. وفي نفس الوقت تدفع القوى الإمبريالية في اتجاه توحيد السوق العربية. ومن الطبيعي أن لا يكون هذ السعي مصاغا في سياق تخفيف العبء على الشعوب العربية، بل، من أجل تحويل مستغليها المحليين الى ديناصورات جبارة، لا تقوى عليها إذا ما رامت التمرد والعصيان واختيار طريق غير التي رسمتها لها.
وليس من اليسير على الطبقة العاملة في بلادنا، في مثل هذه الأوضاع، أن تجد طريقها بسهولة وتنتصب واقفة شامخة في وجه هجمة رأس المال والنيوليبيرالية والإستبداد والفاشية وتفتح أمام الشعب الكادح طريق تحرره الإجتماعي.
تفتقد الطبقة العاملة في بلادنا وفي العالم لبديل واضح المعالم، بعد أن فشلت تجاربها السابقة وعاودت البورجوازية بسط سيادتها على النطاق العالمي دون منازع. ومن المنطقي أن تكون الطبقة العاملة في حاجة الى الوقت الكافي لإعادة صياغة مبادئها وإيديولوجيتها حسبما تقتضيه التطورات والتحولات التي شهدها الواقع الموضوعي وإنجازات العلم الحديث على جميع الأصعدة والدروس التي تستنتجها من خلال تقييم تجاربها السابقة. وهو عمل بصدد الإنجاز هنا وهناك، ومن الأكيد أن تجلي الملامح العامة للبديل الإشتراكي من جديد، من شأنه أن يعطيها مشروعية التقدم للساحة السياسية كطبقة صاحبة مشروع بديل وليست طبقة تابعة. وسوف تتكرس هذه الإستقلالية في ظهور أحزاب سياسية جديدة أو أن الأحزاب القديمة تجدد نفسها وتأخذ مكانها في النضال الطبقي، وهي ظواهر بصدد الحدوث حسب الظروف الخاصة التي يمر بها كل بلد وكل حركة.
لكن الأوضاع في بلادنا أكثر تعقيدا، فاليسار، القديم والجديد، لم يعرف طريقه كي يتحول الى حركة متأصلة في المجتمع، زيادة على تناحره المتواصل وحروبه الباسوسية التي لا تنتهي وروحه الحلقية والإنعزالية وضعف تملكه النظري للماركسية والتعامل معها بدغمائية فأشاع القوالب الجاهزة الجامدة مما عطل انتشار الفكر الإشتراكي في صفوف العمال وأضعف تأثيره في الحركة الجماهيرية.

هيمنة السلطة على اتحاد الشغل وأزمة الحركة النقابية

ولم يكن وضع اليسار وحده المعقد، بل إن وضع الطبقة العاملة أعقد. فقد ظلت خاضعة لهيمنة البورجوازية وتحت قيادة بيروقراطية نقابية، كانت تنتمي للحزب الحاكم الى حدود أواخر سبعينات القرن الماضي ولما أعلنت استقلالها عنه، تحت ضغط القواعد النقابية وأمام تفجرالصراعات بين مختلف شرائح الطبقة الحاكمة، أصبحت تابعة للسلطة عن طريق شراء ضمائر القادة النقابيين أو تطويعهم مكرهين عن طريق الإيقاف والمحاكمة أو تنظيم الإنقلابات تحت يافطات "الوطنية" و"الشرفاء" و"المصالحة" و"حركة التصحيح" وإعداد ملفات الفساد المالي والأخلاقي.
لقد أكدت هذه الأحداث أن الإرتباط السياسي بين الإتحاد والسلطة كان عنصرا ثابتا في الحياة السياسية والإجتماعية. وأثبتت الوقائع أن "حركة التصحيح" التي أزيح بمقتضاها السحباني لم تغير في الوضع شيئا بل عمقت تبعية المنظمة الشغيلة للسلطة، حرصا من القيادة كي تحافظ على مواقعها ومصالحها. وهو سلوك عزل الحركة النقابية عن محيطها الطبيعي ألا وهو المجتمع المدني الديمقراطي المنحاز الى جانب قضايا الحريات والديمقراطية. كما عزلها عن محيطها الإقليمي، بحيث ظلت مساندتها للشعبين الفلسطيني والعراقي محدودة ولم تخرج عن الإطار الرسمي وعن البيانات والزيارات ولم تحولها الى مساندة شعبية للضغط على السلطة وعلى المصالح الإمبريالية في بلادنا. وعزلها أيضا عن محيطها العالمي، بحيث لم يتجاوز نضالها مع الشغيلة العالمية والشعوب والأمم المضطهدة ضد العولمة وتوجهاتها النيوليبيرالية حدود المشاركة في الملتقيات والمؤتمرات والبرقيات والزيارات. رغم أن هذه التوجهات معادية للحريات والديمقراطية ولأبسط المكتسبات التي حققها العمال بعد عقود من النضال المرير. ورغم كونها تعبرعن هجوم شامل على الطبقة العاملة والشعوب الكادحة والأمم المضطهدة، لاستغلالها بصورة مركزة ونهب خيراتها ومنعها من تقرير مصيرها بنفسها.
وقد كان لهذا الوضع انعكاسات سيئة على وضع الحركة النقابية، إذ شهدت حالة تراجع وانحسار، ففترت نضاليتها وبهت إشعاعها في أوساط الشغيلة وعموم الشعب وأقفرت دور الإتحاد وساحاته وعمت الريبة من النقابيين حول نظافة أيديهم وشاع الشك في جدوى العمل النقابي وأفلت الشعلة الكفاحية التي ميزت الطبقة العاملة التونسية منذ نشأتها.
ويمكن حصر مظاهر أزمة العمل النقابي فيما يلي :
أولا تراجع دورالإتحاد العام التونسي للشغل في الدفاع عن المطالب المادية والمعنوية للشغالين بدعوى الظروف الجديدة التي تفرضها العولمة وقبوله بدور النقابة المساهمة التي ترقى بمصلحة الأعراف الى مستوى مصلحة للوطن، بدعوى تشجيع الإستثمار والحفاظ على مواطن الشغل. وقد اكتفى الإتحاد في هذا السياق بالتفاوض على زيادات لا تعوض في شيئ تدهور المقدرة الشرائية وكلفة العيش وغلاء الأسعار، في إطار مفاوضات "السلم الإجتماعية"- تختلف هذه السياسة، عن تلك التي كان قبل بها الإتحاد في عهد الهادي نويرة باعتبارها كانت قائمة على الربط بين الأجور والأسعار والإنتاج والإنتاجية- وتخلى عن نصيب العمال من الثروة الوطنية، رغم أنهم منتجوها وحرمهم من المطالبة بتحسين أجورهم خارج حدود ما تنص عليه هذه الإتفاقيات. أما فيما يتعلق بالمطالب المعنوية وخاصة الحق النقابي وحرمة العامل وحقه في مناقشة الخيارات العامة ومستقبل البلاد فقد غفل عنها تماما واكتفى بتزكية ما تسطره السلطة وما يتماشى ومصلحة الأعراف. وكما هو معلوم فإن المركزية النقابية لم تتحمل مسؤوليتها في التصدي لبرنامج الإصلاح الهيكلي ولاتفاقية الشراكة والخوصصة ومرونة التشغيل والمناولة ومدرسة الغد والسياسة الضريبية ومراجعة التأمين على المرض ولم يطالب بمراقبة مشتركة لصندوق26-26 و21-21 … وكل ما فعله هو أن ساير هذه الخيارات ووفر بذلك الفرصة السانحة للسلطة كي تمضي قدما في تطبيق برامجها دون مواجهة تذكر وللأعراف كي يمعنوا في تملصهم من التزاماتهم تجاه العمال ويشددوا وتيرة الإستغلال ويمعنوا في التعدي على الحق النقابي وعلى أبسط حقوق العمال.
ثانيا تخلي الإتحاد عن الإهتمام بالشأن العام بعد إن كان لعب دورا قياديا في بعض حقبات النضال الوطني وبعد أن كان جعل من برنامجه الإقتصادي والإجتماعي برنامجا للدولة. فقد تخلى اليوم حتى على الدفاع عن الحريات والديمقراطية وحقوق الإنسان، بحيث لم يعد يحمي منظوريه من التعسف والقمع ولم يعد شريكا في النضال مع مكونات المجتمع المدني الديمقراطية، دفاعا عن استقلاليتها وعن حرية العمل النقابي والسياسي والرأي والتعبير وعن حق المواطنة الفعلية وعن حق الشعب التونسي في حياة سياسية متطورة وتعددية فعلية وفي انتخاب من يمثله ومن يحكمه بكل حرية.
ثالثا وتوازيا مع هذا التدهور في دور الإتحاد ومكانته بالنسبة للطبقة العاملة والمجتمع بأسره ولدوره ومكانته على مستوى عربي وعالمي وتخليه عن الدفاع عن الحريات والديمقراطية وحقوق الإنسان في المجتمع فقد شهد وضعه الداخلي ترديا متواصلا تميز بمركزة مشطة دعمت التسلط البيروقراطي للأقلية الماسكة بالجهاز التنفيذي للمركزية النقابية المستعدة للتعدي على الديمقراطية النقابية حفاظا على "السلم الإجتماعية" وعلى روابطها المتميزة مع السلطة. لذلك صادرتها وحاصرتها ومنعت الهياكل والقواعد النقابية من التحرك خارج موافقتها وقضت على تقاليد العمل النقابي التي ظهرت مع بدات الحركة النقابية وأولها الإجتماع العام الذي يعزز اللحمة بين النقابيين والشغالين ويذكي حماستهم ويبلور مطالبهم ووسائل النضال من أجلها ويشحذ عزائمهم وينهض بهمهم وعوضتها بمجالس الهيئات التي تتفنن في الضغط عليها وتمييعها، زيادة على كونها تبقى رهينة ميزاج الهياكل ومواقفها. أما عن المؤتمرات فحدث ولا حرج إذ تفننت في التزوير والدوس على القوانين الداخلية للمنظمة وتصفية المعارضين بشتى الطرق والأشكال وتنصيب التوابع وإجراء مؤتمرات جنائزية، أي دون جلسات عامة وتنظيم الإقتراع بصناديق جوالة، تمنع المرشحين المعارضين من المراقبة والتحقق من شرعية الإنتخابات. وفقد المؤتمر مصداقيته من زاوية أنه لم يعد مناسبة للتقييم والمحاسبة والنقد والنقد الذاتي وضبط التوجهات القطاعية والعامة واختيار أفضل الطاقات التي ظهرت خلال الدورة السابقة لتحمل المسؤولية.
ولا يمكن اعتبار مثل هذا الوضع غريبا، إذا علمنا أن اتحاد الشغل تحول منذ أمد الى جهاز إداري يسيطر فيه المتنفذون أرباب المشاريع وأصحاب الشركات الخاصة وتفشت في صفوفه المحسوبية وساد تقديم الخدمات بالحصول على مقابل أو للمقربين والأتباع لضمان وجود حاشية تحمي المتنفذ وتديم بقاءه في المسؤولية.
وزيادة على ذلك فقد سعى المكتب التنفيذي، في مشروع "إعادة الهيكلة"، الى مزيد من مركزة القرار والنفوذ بالتقليص من عدد أعضاء الهيئة الإدارية بشكل يصبح، باعتبار المكتب التنفيذي الموسع، يمثل الأغلبية داخلها. وعلى هذا النحو يصبح بإمكان القيادة النقابية مسك الإتحاد بقبضة من حديد وضمان هيمنتها دون منازع.

مسؤولية اليسار الماركسي في أزمة الحركة النقابية

كما أن الوضع المتردي للإتحاد، تتحمل فيه القوى الديمقراطية والتقدمية وعلى الأخص منها اليسارية مسؤولية جسيمة، لأنها انخرطت مبكرا في العمل النقابي داخله واحتلت مواقع متقدمة في هياكله وهيئاته وكان لها تأثير إيجابي على نضاليته. لكنها، وهي تحاول الحفاظ على مواقعها، التي اعتبرتها وكأنها هبة من البيروقراطية النقابية أو السلطة، حبست أفقها في حدود الخطوط الحمر المرسومةا. ومع مر الأيام أصبحت هي الأخرى صاحبة مصالح خاصة، في المواقع التي احتلتها، فتحولت الى مكونة من الجهاز البيروقراطي للإتحاد. وإذا أخذنا بعين الإعتبار الأزمة التي يمر بها اليسار وحالة الضياع وعدم وضوح الأفق، ندرك تأثير الإنحسار والتراجع الذي تشهده صفوفه وضعف آداء وتقلص إشعاعه وتراجع الثقة التي كانت لمختلف مكوناته في الساحة السياسية والإجتماعية والثقافية والفكرية والفنية. والأنكى هو تواصل التناحر الفئوي بين مختلف مكوناته، لكن هذه المرة على المواقع والمصالح النفعية وما ينجر عنها من هبوط في مستوى التعامل السياسي والقيمي، بعد إن كان يدور حول السياسة والنظرية والثورة والإشتراكية…إلخ. لقد غابت التصورات البرنامجية البناءة في العمل والصراع وظهرت أمراض أخرى أرهقته مثل الإنسحابية والمغامرية اليائسة(تأسيس نقابة موازية).
ولم ينج من هذه المصيدة غير البعض ممن وجدوا أنفسهم خارج الترتيبات التي جرت في مناسبات "المصالحات" أو"التصحيحات" ومن الذين أدركوا الخطر ووجدوا مخرجا مازال في طور البلورة كعنصر جديد في الحياة النقابية.
وقد أدى هذا الوضع المعقد الى نفور الشغالين من العمل النقابي وزعزع ثقتهم بالإتحاد، حتى أن عدد من النقابيين أصبح يفكر بصورة جدية في الإنسلاخ عنه وبعث إطار نقابي آخر. وهي حلول ولدها اليأس من إمكانية التغيير من الداخل. ونود الإشارة الى أنها ليست المرة الأولى التي يصبح فيها الإتحاد أداة طيعة في يد أصحاب الحكم، وأن تحريره من عقاله أمر وارد، كنا لمسناه في محطات نضالية متعددة، وآخرها ردة فعل القواعد على عبد السلام جراد في ساحة محمد علي بمناسبة احتفالات1 ماي. وتحرير الإتحاد من هذه الهيمنة المزدوجة هي رهينة موازين القوى داخله بين المتنفذين البيروقراطيين والنقابيين الذين يمثلون الشغالين في مؤسساتهم وقطعاتهم، ورهينة مدى تجمع الوعي وتكثفه لدى النقابيين الديمقراطيين بضرورة إحياء جذوة النضال فيه وحمله على لعب دوره في الحياة السياسية والإجتماعية.
إن الخروج من الأزمة التي يمر بها العمل النقابي ممكن وفي متناول اليد إذا تحمل النقابيون الديمقراطيون واليساريون مسؤولياتهم وتوحدوا حول برنامج برنامج أدنى يحمي مصالح الطبقة العاملة وسائر الشغالين من هجمة رأس المال والنيوليبيرالية.
ومن أجل تحقيق ذلك نرى لزوما توضيح مسألة مبدئية حول المخرج، وهي هل هو مخرج نقابي بحت أم سياسي بالأساس؟

الإنحراف النقابوي يعمق أزمة اليسار

إن العمل النقابي يعنى بعلاقة العامل بالعرف، وهو إطار لا يقدر على استيعاب مجمل العلاقات الإجتماعية. لذلك يكون من المنطقي أن يندرج مفهومنا للعمل النقابي في إطار فهمنا لعلاقة الطبقة العاملة بالبورجوازية وبسائر الطبقات والفئات الإجتماعية وبالدولة وبالمحيط القومي والعالمي. وهذا يعني أنه يتعين علينا، إذا شئنا أن تكون تحاليلنا صائبة ومعالجاتنا واقعية، أن ننظر للعمل النقابي من زاوية السياسة، وخارج هذا النطاق نسقط في الترادنيونية.
فالعمل النقابي هو جزء من رؤية شمولية للمجتمع ، وسبب أزمته الراهنة تكمن في غياب هذه الرؤية الشمولية التي يتنزل فيها. كما أن تراجع التنظيمات اليسارية وغياب حزب يوحد مشاغل النشطاء ويساعدهم على التكتل والتجمع في النضال الميداني، هو الذي دفع بأعداد لا يستهان بها الى استغلال الأطر النقابية للتعبير عن مواقفهم ومشاغلهم السياسية. وهكذا وبصورة تدريجية شعروا وكأنهم يناضلون سياسيا ويقدمون أعمالا تذكر فتشكر في الندوات والتظاهرات التي تنظمها هياكلهم النقابية. ومن الواضح، وبهذه الطريقة، أنهم نزلوا بالعمل السياسي الى مستوى إعطاء العمل النقابي أبعادا سياسية وبالتنظيم الحزبي الى مستوى النقابة، ناهيكم أن البعض أصبح عاجزا على الخروج من هذه المصيدة.
لذلك نقول أن الأزمة الراهنة هي بالأساس أزمة بدائل سياسية شاملة تتنزل في إطارها الأزمة النقابية، باعتبارها جزء من كل.
إن تأكيدنا على أن التيارات السياسية في الحركة النقابية ليس لها بدائل سياسية تؤطر عملها في الإتحاد، قد يبدو مبالغ فيه إذا لم يكن من قبيل التجني . ونود تقيم التوضيح التالي، وهو أننا لا نؤخذ بحديث أي حركة عن نفسها والمعيار الأساسي الذي نحتكم إليه، في الحكم عليها أو لها، هي الممارسة. بمعنى هل خرجت تصورات هذه الحركات من إطار الحدود التي فرضتها البيروقراطية على العمل النقابي؟ والجواب بالنفي، باستثناء بعض الفلتات ! ونضيف، أن السياسة اليسارية عموما لم تخرج عن الشعارات الإستراتيجية والقوالب النظرية والسياسية، لذلك فهي لم ترق الى مستوى البديل السياسي الفعلي. لذلك، وبمجرد أن احتكت بالعمل النقابي ضمرت واضمحلت في أوساط عدة ولم يبق منها سوى الهيكل العظمي.
ينبغي أن يدرك اليسار أن الإطار النقابي لن يعوض الإطار السياسي، أي الحزبي، سواء أكان في شكل حزب أوجبهة، مهما ادعينا إضفاء السياسة على العمل النقابي لأن العكس هو الذي يحصل بالضرورة، أي حبس السياسي في الأفق النقابي.
إن غياب التصورات السياسية ومن ثمة البدائل النقابية الواعية بذاتها كروافد تصب في عمل أشمل، هو الذي حول العمل النقابي، لدى عموم اليسار من جزء الى كل، أي الى بديل استراتيجي. وعلى أساس هذه النقلة أصبحت النقابة وكأنها حزب تعتمد فيها المقاييس والروابط الحزبية فتظهر التركيبات الأحادية للنقابات وتتقلص جماهيريتها وتفقد الديمقراطية داخلها دورالمحرك في ظل فقدان التنوع والتعدد.
ونخلص الى القول أن تراجع العمل السياسي الى مستوى الإطار النقابي، حول المناضل اليساري- الثوري- الى مناضل نقابي من الطراز الإصلاحي، لأنه أصبح جزءا من الماكينة البيروقراطية التي تعمل على تنفيذ السياسة المدافعة عن مصالح البورجوازية صلب الطبقة العاملة. وشيئا فشيئا تطبع بطباعها وتشبع بممارساتها، فلف حوله مجموعة من النشطاء والمنخرطين على أساس الخدمات الشخصية التي يقدمها لهم. وأصبحت التحالفات في نظره لا تقوم على أساس مبادئ ومتطلبات موضوعية بل موجهة لأغراض انتخابية هدفها الحصول على مواقع، وهو ما جعل حليف الأمس يصبح بقدرة قادر عدو اليوم والعكس بالعكس. وأدت هذه السلوكات، التي غالبا ما تبرر"بالتكتيك"، وكأن التكتيك لا يقوم على مبادئ أو هو ضرب من ضروب "التكمبين"، إلى تورط العديد من المناضلين والتيارات في تحالفات مشبوهة وساعدت البعض على الإنخراط في "مسار التصحيح" دون أن يتمايز سياسيا وعمليا مع القائمين عليه باعتبارهم يتحملون المسؤولية نفسها والأمين العام المقال.

المخرج من الأزمة النقابية هو بالضرورة سياسي

إن المخرج من أزمة الحركة النقابية في بلادنا هو سياسي بالأساس، إذ من الضروري أن تنزل القوى الديمقراطية واليسارية حرابها وتكف عن الإقتتال فيما بينها. لا أحد ينكر أن خلافاتها لا ترقى، إلا فيما ندر، الى مستوى التناقضات الطبقية، بل هي تناقضات ثانوية في صفوف الشعب وتتطلب معالجات بصفتها تلك. والخطوة الواجب قطعها في هذا الإتجاه، تتمثل في فتح نقاش واسع وصريح حول برنامج أدنى سياسي يوحد تدخلها في المجتمع ومن ضمنه برنامج نقابي يوحد ممارستها في مختلف القطاعات.
إنه لمن المسلمات أن الهيمنة الإمبريالية في ظل العولمة ازدادت حدة وأن الهجوم المركز الذي تقوم به الإمبريالية الأمريكية على الوطن العربي وحملة التصفية التي يقوم بها شارون ضد الشعب الفلسطيني، جعلت المسألة الوطنية والقومية تطرح من جديد على المسرح السياسي بصيغ جديدة ينبغي بحثها والإتفاق في شأنها. لكن ومهما تغيرت مضامينها فهي مقرونة لدى اليسار بالمسألة الديمقراطية. ومن الشائع لديه أيضا أن المهمتين تندرجان في إطار التغييرات الإستراتيجية للتحولات التي سيشهدها المجتمع للمرور الى الإشتراكية. ومن المسلم به أيضا أن النقلات النوعية تتطلب موازين قوى راجحة الى جانب الطبقة العاملة والشعب وأن الميل الى التغيير سائد لديه في تلك اللحظة التاريخية وأن النفسية العامة للناس سائرة في اتجاه التمرد والعصيان وأن استعداد الطبقات السفلى لعمل تاريخي مستقل أصبح أكثر جلاء ووضوحا من ذي قبل، تلك هي الملامح العامة لشروط حلول تغييرات كبرى في المجتمع.
لكن، وما دمنا نعيش في حالة جزر وتراجع للوعي ورجحان موازين القوى لصالح البورجوازية والرجعية، نحن مطالبون بالعمل الدؤوب على تغيير تلكم الموازين وزحزحتها لفائدة الشعب من خلال إنجاز المهمات التي يكون قادرا على تحملها. وبالتدرج تفتح الآفاق رحبة أمامه ونقبل أمرا واقعا، لا حول ولا قوة لنا عليه، وهو أنه لا يتحرك ويهب كالعاصفة لمناطحة السماء، إلا متى أدرك بتجربته الخاصة وتعلم، في الأطر القانونية الموجودة أمامه، كيف يأخذ مصيره بيديه.

أي برنامج يمكن لليسار النقابي أن يتوحد حوله ؟

إننا نجد أنفسنا ، في مثل الوضع الذي نعيش فيه، أمام الحاجة الملحة للإرساء نظام ديمقراطي شعبي ولائيكي كبديل عن النظام الدستوري الدكتاتوري وعن مشروع الدولة الدينية للحركة الإسلامية بمختلف نزعاتها. وتحتل قضايا الحريات، باعتبارها المحمل الذي يمكن بواسطته طرح مجمل مسائل النضال الوطني والإجتماعي، المقام الأول في النضال من أجل هذا البديل.
أننا، وإذ نعمل من أجل تحقيق شعار"الجمهورية الديمقراطية"كهف مرحلي، نناضل من أجل تحقيق الحريات كأهداف مباشرة ضمن برنامج الحد الأدنى الديمقراطي. وفي إطار الحد الأدنى يتنزل العمل النقابي برمته فيصبح جزءا لا يتجزأ من النضال ضد الدكتاتورية. وأولى المسائل التي يطرحها النضال النقابي بمثل هذه الأفق هي مسألة الحرية النقابية التي تخلت عنها المركزية النقابية أمام التضييقات التي تقوم بها السلطة.
إن إدراج العمل النقابي ضمن أفق مقاومة الدكتاتورية من شأنه أن يعطيه فاعلية أكبر ويخرجه من دائرة البيروقراطية النقابية والبورجوازية.
لكن خروجه النهائي من هذه الدوائر لن يحدث إلا إذا تشكل اليسار الموحد في إطار حزب في الساحة السياسية وكتيار موحد داخل الإتحاد يتقدم أمام الطبقة العاملة وسائر الشغالين كبديل عن البيروقراطية النقابية. عندها فقط يمكن الحديث عن فتح صفحة جديدة في تاريخ النضال النقابي والحركة العمالية في بلادنا.
ويمكن ضبط المحاور العامة للبرنامج الموحد لليسار النقابي كما يلي :
1- على اليسار النقابي أن يتبنى برنامج الحد الأدنى السياسي للحركة الديمقراطية،
ويناضل مباشرة من أجل :
- إطلاق الحريات العامة والفردية كحرية التعبير والتنظيم والتظاهر والإضراب والمعتقد،
- العفو التشريعي العام،
- إقرار حياد الإدارة ورفع يد الحزب الحاكم عليها وفي المقام الأول عدم تحمل رئيس الدولة لمسؤوليات
سياسية في أي حزب،
- الإقرار باستقلال السلطتين التشريعية والقضائية على السلطة التنفيذية وبالتداول على الحكم كأساس
يقوم عليه النظام الجمهوري،
- اعتماد الإقتراع العام كأداة يعبر بها الشعب عن إرادته ويختار من يمثله ومن يحكمه واعتماد التمثلية
النسبية في انتخابات مجلس النواب والمجالس البلدية والقروية والجهوية وإلغاء التمثيل عن طريق
القائمة الأغلبية والـ%20 للمعارضة.
2- يناضل اليسار نقابيا من أجل:
- الحق النقابي بما يعنيه من حق في النشاط داخل المؤسسات(تعليق، اجتماع، توزيع،اتصال
بالشغالين…إلخ) وحق الإضراب وتحريره من تحكمية الإدارة والمركزية النقابية وترك أمر
التقرير في شأنه للقوعد والهياكل النقابية،
- المطالب المادية والمعنوية للشغالين التي تحميهم من الإهتراء وتضمن لهم ظروف عيش وعمل لائقة
وتضمن حق الشغل لطالبيه وتحافظ على مقدرتهم الشرائية من خلال مراجعة سلم الأجور والتمسك
بحقهم في التغطية الصحية والإجتماعية ورفض المشاريع الهادفة الى النيل من المكاسب الإجتماعية المهددة بالإنقراض والمطالبة بإلغاء القوانين المنظمة لأشكال التشغيل الهشة وبتسريح العمال وإحالتهم على البطالة الظرفية أو المزمنة،
- التصدي لمرونة التشغيل والمناولة وغيرها من أشكال العدوان على حق الشغل وللخوصصة ولتخلي
الدولة عن دورها الإجتماعي ولاتفاقية الشراكة وفتح اقتصاد البلاد كليا على السوق العالمية، وهي
إملاءات فرضها نسق العولمة النيوليبيرالية وصندوق النقد الدولي والبنك العالمي،
- الدفاع عن الديمقراطية النقابية داخل الإتحاد ومناهضة البيروقراطية وتعديها على القوانين وعدم
احترامها لمقررات الهيئات العليا للمنظمة النقابية وعدم التزامها بها. والنضال من أجل تطوير قوانينها بما يضمن الحرية النقابية ويحميها من كل تعد وتطوير المراقبة والمحاسبة القاعدية للمسؤولين وسحب الثقة منهم كلما ظهر بوضوح أنهم لم يكونوا في مستوى المسؤولية والثقة التي منحتها لهم القواعد وتشريك المنخرطين فعليا في اتخاذ القرار، عن طريق الإجتماعات العامة والعرائض وتوسيع صلاحيات الهياكل النقابية السفلى والوسطى تجاه منظوريها في الدفاع عن مطالبهم ومطامحهم والتقليص من صلاحيات الهياكل العليا وخاصة المكتب التنفيذي والنضال من أجل تمثيلية أوسع للمرأة صلب الهياكل والهيئات.
الدفاع عن استقلالية الإتحاد والذود عنها وذلك بالتصدي لنهج النقابة المساهمة التي تسير عليه البيروقراطية النقابية وبالنضال ضد الخيارات الإقتصادية والإجتماعية والسياسية للحزب الحاكم وسلطته وفي مقدمتها الإندماج الأعمى في العولمة وخوصصة الإقتصاد وتدمير القوى المنتجة التونسية والمطالبة، في الوقت نفسه، بحل الشعب المهنية التي يسعى الحزب الحاكم، بواسطتها، الى الإستحواذ على دور المنظمة الشغيلة ووضع يده عليها مباشرة.
حمل الإتحاد على تحمل دوره في النضال الديمقراطي والوطني واحتلال موقعه ضمن مكونات المجتمع المدني الديمقراطية وعلى الوقوف الى جانب القضايا العربية العالمية ومناصرة الشعبين العراقي والفلسطيني.
تونس في1 ماي2004

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire